كان علماؤنا الذين شاركوا في تأسيس العلوم يهتمون اهتماما واضحا ببيان الخطوات التي سلكوها في استنباط حقائق العلوم، وكانوا يزاوجون في إعداد الجيل الذي يخلفهم بين أمرين، الأول تعليم أصول العلم، والثاني بيان كيف استخرجت هذه الأصول، والخطوات التي سلكوها، فكأنهم يعلمون تلاميذهم العلم، وصناعة العلم.
علينا أولا أن نمنع فكرة استعجام العقل العربي، لأنها تعني كارثة كونها دينية قومية ونذير نهاية للثقافة الإسلامية والعربية بين الثقافات المختلفة.
إن القراءة مجرد القراءة فحسب لا تغني شيئا ولا تفيد صاحبها عدا عن امتلاكه بعض المعلومات السطحية، حول الموضوع الذي يقرأ فيه، لذا توجب التعمق في القراءة والاعتماد على النوع لا على العدد المقروء، علينا معرفة كيفية صناعة العلم وليس مجرد تلقيه والوقوف عند ذلك.
تأسيس العلوم يأتي من خلال خطوات الاستنباط والقياس والعلل، وهذه تعد أركانا للعلم، على غرار ما فعل سيبويه حين يقول لصاحبه «تعال حتى نتعاون في إحياء علم الخليل» ثم يتمه ويحييه هو وحده.
تعد قراءة كتاب واحد أكثر من مرة لاستيعابه كاملا خيرا من قراءة متوالية لعدد من الكتب لمجرد الاطلاع والثقافة العامة، وقد أورد المؤلف قصة كتاب الرسالة «للشافعي» وقرأها صاحبه «إسماعيل بن يحيى المزني» أكثر من 500 مرة، وفي كل مرة يخرج منها بغير ما خرج في المرة التي سبقتها، (وكأن الكتاب نفسه ينمو في كل مرة ويتكاثر لطول المراجعة) فينمو العلم بذلك ويتجدد.
إعمال العقل والتفكر في العلم يعد بابا من أبواب العبادة كحال الصلاة والصوم، وأن العلم ليس ذاكرة تحفظ وإنما عقل يتحرك ويستخرج.
كره بعض العلماء ممن سبق تكرار تبيان علم سبقهم غيره إلى بيانه، فإذا كان ولا بد حاول أن يبحث في الموضوع عن فكرة جديدة لم يفطن إليها من سبقه ويجعل محور الحديث عن الموضوع حول تلك الفكرة، وبهذه الطريقة ينحرف عن السير في الطريق الممهد الذي وطئته أقدام من سبقوه.
لا يمكن أبدا أن نفهم العلم ما لم نحلل الألفاظ الجارية على ألسنة العلماء، ونستخرج منها مضمر أغراضهم التي أودعوها في مضمر الكلمات.
تعليم الأجيال بناء العلم خير لهم من معرفة كيفية تحصيل العلوم، ومن تعلم البناء بنى ومن بنى كد ومن كد اشتد ومن اشتد حفظ ورعى وحمى، وبهذا نعد أجيالنا لحماية أرضنا وثقافتنا من بعدنا.
وقد أدرك عدونا هذا وأكثر، ولما دالت له الأيام ودالت علينا، كان التصميم الأكيد على طمس هذا النهر الذي يخصب هذه الديار، ومن أجل هذا الطمس افتعلت قضايا ومعارك ودلست حقائق وشاعت أفكار كلها تعمل على تغييب هذه العلوم وهذه المناهج وإحلال علوم العدو المحتل محلها، وما تبعها من معارك القديم والجديد التي ثارت أوائل هذا القرن.
وأخيرا علينا أن نعي أن الذين فرضوا علينا التجديد من الغرب والشرق، من أشد الناس تشبثا بتراثهم وعلومهم، ومن أشد الناس أخذا بمعنى الجديد الذي هو تأسيس وبناء المعرفة، وإلصاق ازدهار العلوم الإسلامية والعربية بفضل ترجمة علوم اليونان زورا وكذبا.
Uthman8899