الإجابة عن هذا السؤال ببساطة: هي أن ماء الأرض في كل مكان تقريبًا، فوق الأرض، في السحاب، على سطح الأرض، في الأنهار والبحيرات والمحيطات والجليد والنباتات والكائنات الحية، وباطن الأرض في المياه الجوفية، وهو يعتبر حجمًا كبيرًا مقارنة باليابسة ويقدر تقريبًا بحجم 1.388.000.000 كيلو متر مكعب. ولكن عزيزي القارئ من هذا التوزيع ترى أن نسبة 96.5% من ماء الأرض توجد في المحيطات وحوالي 1% في باقي الماء المالح، ونسبة الماء العذب لا تمثل إلا 2.5% فقط من ماء الأرض. لا يتخيل القارئ أن هذه النسبة متاحة لنا، بل على العكس تمامًا هذه النسبة موزعة كالتالي، وهي بنسبة 68.7 % محصورة في الأنهار الجليدية، ونسبة 30.1% في المياه الجوفية. وبالتالي يتبقى فقط 1.2% منها في المياه السطحية. وللتقريب أكثر نجدها 1.2% من نسبة 2.5% من 100% (أي هي نسبة 0.03% من ماء الأرض). ليس هذا فقط، بل هذا الجزء الضئيل موزع إلى ثمانية أقسام. وبذلك نلاحظ أن مياه الأنهار لا تتعدى سوى 0.49% بعد تقسيم 1.2% إلى 100 جزء (أي تكون مياه الأنهار حوالي تقريبًا 0.0002% من ماء الأرض).
ومع تضاعف أعداد البشر والاستهلاك المتضاعف للمياه يوميًّا يزداد الأمر خطورة. ويصبح توافر المياه على سطح الأرض ضئيلًا جدًا، ويجب التخطيط الجيد في استخدامه وعدم إهداره، والحفاظ عليه من التلوث، ومعرفة كيفية تدويره بما لا يضر بالبيئة.
لا ريب في أن استهلاك المياه من قبل البشر، سواء في الحياة المدنية أو الزراعة أو مزارع الحيوانات والمصانع، تنتج عنه مياه ذات خواص مختلفة فيزيائيًّا وكيميائيًّا، وبذلك نقول إن المياه أصبحت ملوثة ولا يمكن استخدامها في هذا الشكل، وكذلك لا يمكن صرفها بشكل خاطئ وإلا يتسبب في تلوث المياه الصالحة الأخرى، سواء المياه السطحية كالأنهار والبحيرات أو حتى الجوفية. فما بالنا اليوم والبشرية في ازدياد ومعها الثروة الحيوانية والزراعية والصناعية في تزايدها كذلك. فهذا يعني استهلاك مياه أكثر، بل وإنتاج تلوث أكثر فأكثر. فالتلوث لا يصيب فقط المياه المستخدمة، بل ربما يصيب أيضًا أصل المياه ككل عن طريق تسرّب المياه الملوثة إلى جسم المياه.
الملوثات المنبعثة من محطات معالجة مياه الصرف الصحي
أولًا كمثال يعاني خليج المكسيك من نقص الأكسجة (نسبة الأكسجين في الماء، والذي يوضح إن كان الماء ملوثًا أو جيدًا)؛ بسبب تراكم العناصر الغذائية من مستجمعات المياه في المسيسيبي وهو يعتبر ثالث أكبر مستجمع مائي في العالم (Historic trends of hypoxia in the Gulf of Mexico (NOAA, 2010).). وكذلك خطر تكاثر الطحالب الضارة (Harmful Algal Blooms, HABs) تعتبر من الملوثات والكوارث البيئية التي تهدد الحياة المائية، وكذلك إمدادات مياه الشرب في منطقة البحيرات الكبرى، وهي خمس بحيرات مياه عذبة تستفيد منها بصورة مباشرة مقاطعتان في كندا، وثماني ولايات أمريكية: وهي بحيرات سوبيريور، هرون، ميشيغان، إري أونتاريو، لا سيما في أحواض بحيرة إيري (Historic trends of harmful algal blooms (NOAA, 2016).). كذلك عملية إطلاق الزئبق من عمليات الاحتراق في محطات الطاقة القائمة على الفحم والعمليات الصناعية الأخرى مثل التعدين والصهر تعتبر مشكلة بيئية مستمرة. فبمجرد إطلاقه في الغلاف الجوي في شكل عنصري وغازي بحجم النانو Hg0، يحمل في اتجاه الريح ثم يترسب على الأرض كمعادن في شكله الزئبقي (Hg2+) ومن ثم ينتقل عن طريق الجريان السطحي إلى الأنهار التي تتحول إلى عضوي (Hg-C) والمزيد من الأشكال بيولوجيًا. وأما محطات معالجة مياه الصرف الصحي المدنية التي تتلقى مياه الصرف الصحي من المصانع فتصرف مستويات أعلى من المعادن الثقيلة في المسطحات المائية.
وبذلك فإن حوالي 2 مليون طن يوميًا من حمأة الصرف الصحي والنفايات السائلة يتم إطلاقها في الأنهار الطبيعية والبحيرات على مستوى العالم. لذا وبعد كل هذه التحديات وجب على العالم بأسره أن ينتبه لما يقترفه من تلوث المياه. وأن ينتبه من أجل الأمن الغذائي والاستدامة البيئية، ومن أجل صحة الكوكب. لذا من الخيارات المُثلى أيضًا تحويل محطات الصرف الصحي إلى محطات معالجة المياه وتدويرها، بالإضافة إلى تحويل محطات المعالجة المستقبلية إلى منشآت لاستعادة الموارد إلى تحوّل نموذجي. هذا التحوُّل النموذجي هو تحويل محطات معالجة مياه الصرف الصحي التقليدية من كونها مجرد مرافق لإزالة التلوث إلى منشآت لاستعادة الموارد Resource recovery facilities (RRF).
آفاق المستقبل وملاحظات ختامية:
مما لا شك فيه أن درجات الحرارة العالمية المرتفعة ستؤدي في المستقبل إلى زيادة التبخر وذوبان الجليد وفقدان المياه المتاحة للاستهلاك البشري. بل وستؤدي كذلك إلى توسيع الصحاري في المناطق الوسطى القارية مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وبالتالي يؤدي ذلك إلى انخفاض في متوسط الجريان السطحي السنوي، والذي يؤدي إلى اشتداد موجات الجفاف في كثير من البلدان حتى أوروبا وجنوب أفريقيا. كذلك زيادة العواصف الشديدة ستؤدي إلى زيادة هطول الأمطار، وتقلب دورة المياه، وزيادة مناطق الاضطرابات الاستوائية. ويؤدي هذا إلى حدوث فيضانات في المناطق المنخفضة من العالم كالذي حدث قريبًا على نطاق ضيق في مدينة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية، والقريبة من البحر الأبيض المتوسط؛ لأن المناطق الأقرب إلى السهول الساحلية التي تستوعب حوالي 30% من سكان العالم ستكون عُرضة للملوحة الشديدة وتسرّب مياه البحر، سواء كان ذلك بسبب الإجهاد المائي في مناطق وسط القارة من العالم أو مشاكل جودة المياه على طول الساحل، وبالتالي ستكون هناك ندرة في المياه النظيفة في المستقبل. لذلك، تعتبر المياه هي أثمن مورد يحتاجه البشر من مياه الصرف الصحي البلدية.
مياه الصرف الصحي المستصلحة ستكون مصدرًا بديلًا مهمًّا للمياه العذبة في أجزاء مختلفة من العالم.
مع تعرّض الدول لتدهور جودة المياه، ستكون محطات معالجة مياه الصرف الصحي تحت ضغط لتحديث تقنياتها لتلبية معايير تصريف أكثر صرامة. نتيجة لذلك، ستحتاج هذه المصانع إلى المزيد من الموارد المالية، وسيكون استرداد الموارد فرصة مرحَّبًا بها لهذه المصانع لتغطية تكاليف معالجتها، وكذلك تجنب تحويل التكاليف إلى المستهلكين. فيمكن أن تكون مياه الصرف المنزلية بمثابة مورد محتمل للمياه المعالجة، والمغذيات، والوقود الحيوي، والمعادن. ولكن تعتمد وفرة هذه الموارد على مدى تجمّع حمأة الصرف الصحي البلدية مع النفايات السائلة الصناعية والجريان السطحي للزراعة.
وستعتمد إمكانات السوق لهذه المنتجات والطاقة على طلبها، ومصادرها البديلة، وأسعارها، وتوافر مياه الصرف الصحي، وعوائد الاسترداد. فيجب أن يتم استرداد منتجات محددة من محطة معالجة مياه الصرف بشكل إستراتيجي لاستهداف المواد التي لديها إمداد محدود، والتي يتم استنفادهم من الموارد الطبيعية الأصلية.
لذا يجب العمل على:
1. تغيير نظرة المجتمع لتقبّله إعادة تدوير مياه الصرف الصحي وتدوير الموارد المستعادة منها.
2. سن القوانين الضابطة لتحويل محطات معالجة مياه الصرف الصحي كمرافق أساسية لاستعادة المياه والموارد.
وفي الختام كل الشكر والتقدير لكرسي بنك البلاد للأمن الغذائي في المملكة العربية السعودية وعمادة البحث العلمي ووكالة الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة الملك فيصل لدعم المشروع تحت مشروع الكرسي88 (CHAIR88).
@AdilAlshoaibi