للوهلة الأولى نجد مثل هذه الظاهرة ارتبطت عند البعض (وخصوصا الشباب الذين انطلقوا بحماس منقطع النظير)، تارة باسم حرية التعبير، وتارة أخرى باسم انفتاح الجيل الحالي على الثقافة المعاصرة وتحولاتها الكبرى، كي يرفعوا أصواتهم متحدين السلطة الاجتماعية والدينية معا.
لكن يتناسى هذا البعض أن النقد يبدأ كخيار شخصي مرتبط بالمكون الثقافي والروحي والنفسي والظرفي للشخص ذاته. لكنه عندما يتحول إلى خطاب داخل المجتمع، يصبح النقد قيمة مشتركة بين جميع فئات المجتمع، وهذا ما لم يتجسد في مثل هذه الظاهرة.
بيد أني مع حرية التعبير المرتبطة بالمسؤولية، وحرية النقد المرتبطة أولا وأخيرا بموضوعها ضمن حدود وسياق الدراسات التي تنتمي إلى حقل الموضوع ذاته، وكمثال على ذلك، عندما نتعرض نقديا للطقوس والعقائد يبرز أمامنا حقلان معرفيان، لا يمكن إغفالهما، أو القفز على ما حققاه من نتائج في هذا المضمار، حتى وإن كنا لا نتفق بالعموم مع هذه النتائج، الأول علم اجتماع الدين، وحقل الانثربولوجيا بجميع فروعه ثانيا. بينما لو كان الموضوع المنقود هو الدين نفسه، فلا غنى عن حقل فلسفة الدين، أو حقل تاريخ الأديان المقارن.
لذلك متى ما تحولت هذه الظاهرة إلى مرتكزات نقدية من هذا القبيل، ينبغي أن نكون أول المسارعين للمشاركة فيه. التحولات التي أعنيها هنا، لا ترتبط بقوة ذاتية - وإن كان لها نصيب من تأثير على مجرى تلك التحولات - من قبيل نضال هذا المثقف أو ذاك، وإنما بقوة النسق الذي يحدد أفق تفكير وثقافة وتصورات أي مجتمع في فترة زمنية محددة، وتفكيك أي نسق يحتاج إلى خطاب نقدي اجتماعي تتضافر الجهود حوله من كل حدب وصوب.
إذن المسألة لا تعني المعادلة التالية: نقد + طقوس وعقائد + مثقف = خطاب تنوير. هذه مغالطة كبرى، لكن شريطة أخذنا بعين الاعتبار وضعية المجتمع في سياق تحولاته التاريخية، بكل ما يترتب على هذه الوضعية من اعتبارات وأولويات واهتمامات، يتوقف عليها تحسين الشروط المعيشية اليومية. على العموم، رغم كل ذلك، فأنا لا أضع هذه المعادلة ضمن التابوهات المحرمة على التفكير النقدي بشكل عام.
ناهيك أن المنطق العقلي للنقد يرتكز على مبدأ المقارنة والتقابل، والأخذ بالأسباب والعلل والنتائج التي تحدث في مجال المقارنة بين ثقافة وأخرى.
لذلك ما يجب الانتباه إليه أنه جرى استنساخ تجربة الحداثة في الغرب، وإنزالها منزلة الحقيقة المطلقة في تجربة الحداثة العربية، دون إمعان النظر، في الأسس التي قامت عليها، ولا في طبيعة الفضاء المعرفي لكل حضارة.
هذا هو تحديدا مأزق حداثتنا الذي لم يسلم منه لا صغير ولا كبير. أسوق هذا الكلام، لأدلل أقلها على المستوى الشخصي، كيف كان تنزيل النظر في تجربة الحداثة الغربية أدى إلى تشوهات عديدة، في طريقة تبني الأفكار والمفاهيم والقيم في المجال العربي؟
يبقى أن نقول إن توصيف المثقف بالمستنير لا يعني البتة حصره في مجال معرفي محدد، بل هو نتاج شبكة من العلاقات المعرفية، قد يكون صاحب خطاب شفهي مؤثر على شريحة واسعة من الجماهير، أو قد يكون صاحب كتابات مؤثرة على شريحة واسعة أيضا من القراء. بغض النظر طبعا عن قيمة ما يطرح هذا أو ذاك قولا أو كتابة.
@MohammedAlHerz3