وهذا يعني أن التصور - الذي يزعم بأن الدولة المدنية تعني الحرية المطلقة، وعدم مراعاة الدولة المدنية للقيم التي على الأرض التي تحكمها من تاريخ ومجتمع وأعراف ومقدس ديني - تصوّر غير صحيح ويخالف مفهوم المدنية ويحوّلها إلى دولة دكتاتورية، ووسيلة لقمع المكوّنات التي على الأرض بدعوى المدنية.
كما أن المفهوم الشائع الذي يربط بين الدولة المدنية والعلمانية أيضًا خاطئ، فالدولة العلمانية تنادي بالمساواة والفردانية، في حين أن المدنية تنادي بالعدل والتكاتف الاجتماعي، كما نرى ذلك واضحًا في وثيقة المدينة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبالمحصّلة فإن الدولة المدنية دولة تحمي كل أعضاء المجتمع، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية، وهذه القيمة وفّرها المسلمون الأوائل لجميع المجتمعات والطبقات والأديان، فالوصية العمرية لنصارى القدس، والتعهّد بحماية الكنيسة وثيقة لا يمكن أن تنبثق إلا من وجدان دولة مدنية.
وجميع تعاريف الدولة المدنية لم تجزم بتعريف بعينه، إلا أنها أجمعت على احترام جميع المواطنين والمقيمين، وعدم توظيف الدين أو العرق أو اللون لظلم أحدهم أو احتقاره أو التربّح بالقيم الدينية لمصالح شخصية لا تليق باسم الله العليم وأنبيائه "عليهم السلام".
وباستعراضٍ سريعٍ لسيرة خاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم- وسُنّته الكريمة، يمكن للمطّلع ملاحظة أن دولة المدينة النبوية الأولى كانت دولة مدنية، وليست نظامًا دينيًّا ثيوقراطيًّا متشنجًا، وذلك على النحو التالي:
1. كان لرسول الله القائد الأعلى للدولة الإسلامية جارٌ يهودي، والرسول الكريم يُحسن إليه.
2. رفض رسول الله تدخُّل الدولة في سوق العمل، وتركه حرًّا حين قال للمزارعين: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم».
3. قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم ـ بين الناس بناءً على الأدلة والبراهين الظاهرة، أي أن رسول الله لم يدخل علم الغيبيات أو الوحي في القضاء، حتى تبقى التعاملات ظاهرة بعيدة عن النوايا والمشاعر الروحية التي قد تؤثر على حياد الدولة تجاه حقوق الكافة.
4. أمر الفاروق -رضي الله عنه- بيت المال أن يجري مبلغًا ليهودي كهل يسكن المدينة.
5. يصرف رسول الله النظر عن اعترافات بارتكاب أخطاء وتجاوز حدود أخلاقية؛ لتلافي تطبيق أحكام قضائية في حق مرتكبيها؛ لأن أخطاءهم الشخصية لم تفتضح أو تتفش وتتحول إلى ظاهرة تخدش حياء وقيم وآداب وأخلاق المجتمع.
6. حرَّم رسول الله التجسس حفاظًا على الحريات الخاصة.
7. رسول الله يلتحق بربه، ولم يضع آليات تفصيلية لاختيار الحاكم مكتفيًا بمبادئ عامة لتناسب أحوال وأوضاع الناس في الأزمنة والأحوال المختلفة.
أستطيع أن أقول إن دول الخليج تتحلى بسمات الدولة المدنية المعتدلة التي للأسف لم ينبرِ المثقفون والفقهاء لإيضاح ملامحها وامتيازاتها.