. وتجمعني بـ"أبو زياد"، تقبَّله الله في الصالحين، علاقات جيرة في حي الخليج، بسكن أعضاء هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، حيث كنا نعمل، جيرة دامت لأكثر من ثلاثين عامًا. كان المرحوم "بإذن الله" جارًا طيبًا ووفيًّا بلا حدود، ملتزمًا بما أوصت به الشريعة في حق الجار، فأنعِم وأكرِم بها من أسرة، أنزل الله على قلوب أفرادها السكينة في مصابهم الجلل.
. لقد كان "يرحمه الله" من أكثر الأكاديميين خبرة في الإدارة الجامعية، وقد كتب مؤلفًا عن التعليم العالي في المملكة، شمل ثمانية فصول، غطت الكثير من قضايا التعليم العالي الهامة، كما رآها أبو زياد "عفا الله عنه"، إبان ممارسته عمله الأكاديمي الإداري.
. ولكي يكون الكاتب صادقًا في حديثه عن تلك التجربة في العمل الجامعي، فيجده من الواقعية بمكان القول إن المرحوم "بإذن الله" يكاد يتفرَّد بتنوع الخبرة في مجال التعليم العالي. فقد درس علم الاجتماع حتى رُقِّي للأستاذية فيه، ووكيلًا لعمادة شؤون الطلاب، ثم عميدًا للخدمات التعليمية؛ ليصبح بعدها وكيلًا للجامعة، خلال فترة امتدت قرابة الأربعين عامًا، كُلِّف مرارًا خلالها بإدارة شؤون الجامعة، أثناء سفر مديرها في مهمة رسمية، أو في إجازة سنوية.
. لقد أشرف أبو زياد "يرحمه الله"، خلال عمله وكيلًا لعمادة شؤون الطلاب، على عددٍ من الإدارات الحيوية، وكان من بين أهمها إدارة شؤون الخريجين، التي كانت تمثل ولا تزال، حلقة وصل بين الجامعة وخريجيها. وكُلِّف بعدها بالعمل عميدًا للخدمات التعليمية، وهناك قدَّم المرحوم "بإذن الله" لطلبة السنة التحضيرية من خريجي الثانوية العامة، وبجدية ودبلوماسية ورعاية أبوية وأخوية، خدمات جليلة لا مثيل لها، شاهدت بعضها بأم عيني.
. وعندما أصبح المرحوم "بإذن الله" وكيلًا للجامعة، بات يشرف على ما لا يقل عن عشر من إدارات الجامعة الهامة، المعنية بجوانب إدارية ومالية ومحاسبية وفنية كالمشاريع والإنشاءات. وأُسنِدت إليه في وقت لاحق، مهام وكالة الجامعة للشؤون الأكاديمية. وبذلك يكون الدكتور الخضير قد غطى تقريبًا كل المهام الإدارية الجامعية الأساسية؛ ليصبح بذلك أكثر مَن مارس العملية الإدارية الجامعية من بين الأكاديميين السعوديين في الجامعة، منذ أن كانت كلية للبترول والمعادن، ولن يختلف معي اثنان من زملائي الأكاديميين في ذلك.
. كما تجمعني بالمرحوم "بإذن الله" الكثير من الذكريات. وسأسرد هنا ثلاثًا بإيجاز. الأولى أنه خلال عمله عميدًا للخدمات التعليمية، جاءني يومًا ليفاجئني بقرار مفاده أنه يفكر في الالتحاق بالعمل في أرامكو السعودية، حيث لديهم في إدارة التدريب والتطوير فرص لمثل مَن يملك خبرته التعليمية. لم أستسغ الفكرة أبدًا، ولم أؤيدها البتة، خاصةً أنني كنتُ قد ابتعثتُ لدراستي الجامعية من قِبَل شركة أرامكو، التي استقلتُ منها بعد تخرجي لألتحق بالعمل بالجامعة. نصحتُ المرحوم "بإذن الله" مرارًا وتكرارًا بالتراجع عن قراره، موضحًا له لماذا؟ ومن جوانب عدة، وأن الفرصة في الجامعة لمكانة إدارية أفضل مستقبلًا ممكنة جدًّا في ضوء تجربته، ولكنه تمسَّك بقراره، رغم عدم قناعته الكاملة به.
. بدأ عمله في شركة أرامكو، صباح يوم السبت، وقدَّم استقالته صباح السبت الذي تلاه. وإليكم القصة: لقد اختلفت عليه بيئة العمل، سواء من حيث الموقع الإداري أو المسؤوليات، أو الجناح الصغير "cubical" الذي احتواه فور تسلّمه المهام، ودون أي مساعدة إدارية، كما كان الحال في العمادة والجامعة. وهو أمر كنتُ قد لفتُّ نظره إليه.
. وبينما كنا نفكر سويًّا في مخرج لذلك المأزق، ذهب المرحوم "بإذن الله" لمركز التسوق في الجامعة، عصر الخميس، وبينما هو يغادر المركز، فإذا بمعالي مدير الجامعة آنذاك الدكتور بكر عبدالله بن بكر، مَنَّ الله عليه بالصحة والعافية، يدخل المركز، وقال للمرحوم "بإذن الله": "كيف أرامكو معك يا خضير؟"، فردَّ عليه قائلًا: "أنوي العودة للجامعة يا دكتور". فإذا بالدكتور بكر يفاجئه برد لم يكن في حسبان المرحوم "بإذن الله"، حيث قال له: "ارجع لمكتبك، فلم يُعيَّن البديل عنك بعد". سُرَّ المرحوم جدًّا بالخبر، وأتى إلى منزلي مباشرة ليبلّغني بما سمعه من الدكتور بكر من جهة، وليعِد بالأخذ برأيي مستقبلًا. لقد غيَّر قرار الدكتور بكر الكثير في مسيرة المرحوم "بإذن الله" الإدارية لاحقًا، ولولا لقاء الصدفة بينهما، لربما سارت الأمور بشكل مختلف.
. ومن الذكريات الخاصة التي لا يعرفها أحد، أن أبا زياد "يرحمه الله" كان ينزعج كثيرًا عندما يسمع أو يشاهد الإساءة إلى عَلم المملكة الذي يحمل "لفظ الجلالة"، سواء كان ذلك عند تمزيقه أو حرقه أو أن يطأ عليه المتظاهرون بأقدامهم أحيانًا. كان يفضل "يرحمه الله" ألا يحمل العلم لفظ الجلالة. وتحدث معي في ذلك كثيرًا. وقرَّر الكتابة عنه، واتفقنا على تجنُّب الكتابة الصحفية حوله، والرفع بالأمر لولي الأمر. وقد تم ذلك فعلًا، ورفع المرحوم "بإذن الله" خطابًا لأحد كبار المسؤولين، مشفوعًا بمقترح مفاده أن يحذف لفظ الجلالة من العَلم، وأن يُكتفى بالسيف واسم المملكة.
. وككل الآباء والأمهات، تشغلنا في العادة استعدادات أبنائنا وبناتنا للامتحانات، وكان يقول لي "يرحمه الله": "قل لعيالك، إذا صعب عليهم السؤال، يرددون: "اللهم يا معلم إبراهيم علِّمنا، ويا مُفهِّم سليمان فهِّمنا"، وأن هذا ما كان يقوله له والده سعود الخضير، عندما كان المرحوم "بإذن الله" طالبًا في المرحلة الابتدائية "رحمهما الله".
. وما لا يعرفه غيري عن المرحوم "بإذن الله"، هو أنه حاول وهو في الستينيات من عمره كتابة الشعر، وكان يُطلعني على محاولاته تلك، وقد نشر محمد الوعيل "يرحمه الله" إبان عمله رئيسًا لتحرير جريدة (اليوم) أكثر من محاولة شعرية للمرحوم "بإذن الله". وكانت أمام المرحوم "بإذن الله" فرصة لأن يطوِّر تلك المحاولات، ولكنه لم يستمر فيها.
. كان خضير الخضير "تغمَّده الله بواسع رحمته" من أفضل مَن يقرأ موضوعًا ويعلق عليه، وقد ساعده في ذلك اطلاعه الواسع وجدِّيته في إكمال المهمة، وإدراكه العميق لما يقرأ، ومقترحاته النصِّيَّة الوافية عليه، وقد سعدت جدًّا بقراءته بعض مقالاتي، وتصويبه لها لغويًّا
واقتراح ما يلزم من إضافة أو حذف أو تعديل.
. ولسوء الحظ، أنه أثناء معاناة الدكتور خضير المرضية "يرحمه الله"، سقط اسمه سهوًا من قائمة الأكاديميين المكرَّمين في حفل كبير شهدته جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، حيث لم يُعلن عن اسمه ضمن المجموعة الأكاديمية المكرَّمة ذلك المساء. ولا أعلم كيف وصلته تلك المعلومة. وبعد أن عرفتُ أنه علم بها، حاولت طمأنته بأن الأمر لم يتعدَ سقوط الاسم سهوًا، وأن الجميع في الجامعة يتفقون على قدر مكانته وعطائه، وما قدَّمه من خدمات عبر السنين. ولمزيدٍ من الراحة النفسية، سمَّيتُ له بعض الزملاء الذين سقطت أسماؤهم أيضًا. ما كان يدور في ذهنه "يرحمه الله"، هو كيف يسقط اسم صاحب عطاء لجامعة دخل من سورها عام 1978، ولم يغادر ذلك السور طمعًا في مال أو بحث عن جاه حتى تقاعده، ولمدة خدمة مخلصة وجادة تقرب من الأربعين عامًا، في جوانب أكاديمية وإدارية مختلفة ومتعددة.
. ولقد كانت أول مناسبة يشارك فيها خضير الخضير "يرحمه الله"، بعد الوعكة الصحية الأولى التي أبعدته عن مجتمعه أشهُرًا، حفل عشاء أقمتُه تكريمًا لثلاثة من رؤساء تحرير الصحف المحلية المعينين حديثًا. وحين تطرَّقتُ في كلمتي الترحيبية بالحضور، عن سعادتي بتواجد المرحوم "بإذن الله" بيننا، استوقفتني العاطفة، فوقفت تمامًا عن الكلام، واختصرتُ ما تبقى من الكلمة. وقد أحسَّ أستاذ علم النفس الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الدخيل بذلك الموقف، واتصل بي في اليوم التالي؛ ليشكرني على مشاعري تجاه "أبو زياد"، أكرم الله مثواه، الذي يُكِنُّ له الدكتور الدخيل مودة لمسها منه أبناء المرحوم "بإذن الله" في مجلس العزاء، أمام المعزين.
. من إصدارات المرحوم "بإذن الله" العلمية التي أبدع فيها، كتاب حمل عنوان "علم الاجتماع الصناعي" الذي يمثل مؤلفًا فريدًا من نوعه، شرح فيه جوانب كثيرة من العلاقات المتبادلة بين الصناعة والمجتمع، وشمل دروسًا في ذلك استقاها "رحمه الله" من قراءات عن دول سبقت المملكة في تقدُّمها الصناعي، كتابًا لقي الكثير من القبول الأكاديمي.
. وهنا خاطرة ذات صلة، فكنتُ قد كتبتُ في 14 يوليو رسالة واتساب للأخ الدكتور عبدالرحمن الجعفري ، أي قبل وفاة الدكتور خضير بأيام فقط ، رسالة قلت فيها "مشتاقين أبا خالد" ورد قائلًا: "ونحن كذلك، إلى لقاء قريب". والتقينا في لقاء كان بالفعل قريبًا، بعد أيام فقط. وكتبتُ لـ "أبو خالد"، مساء، قائلًا: "نعم التقينا أبا خالد؛ لنودع جنبًا إلى جنب صديقًا مشتركًا، غفر الله له، وتغمَّده بواسع رحمته.
. وجاء مساء اليوم الثالث للعزاء، وقفتُ أودِّع الحضور، فإذا بأبناء خالد وزياد وسعود قريبين مني، وبمجرد أن أمسكت بيدي اثنين منهما، تغلبت عليَّ عاطفة، كنتُ قد تغلبتُ عليها لأيام ثلاثة، فلم أتمالك نفسي، فبكيتُ، وهممتُ مسرعًا بالخروج، ولم أقف عن البكاء حتى وصلت منزلي، فإذا بزياد "أكرمه الله"، يهاتفني ليطمئن.
. للأخت الفاضلة أم زياد، أمدَّ الله في عمرها، وللأبناء زياد وسعود وخالد وخلود أقول: "إن الوقع ذو جلل، والبقاء أمر لا يدوم، والدوام في دار أعدَّها الله للصابرين. لله ما أعطى، ولله ما أخذ. أسكن الله خضير الخضير فردوسه الأعلى، وأنزل عليه واسع رحمته، وجبر قلوبكم على فراقه. نعزيكم بقلوب محتسبة. (إنا لله وإنا إليه راجعون).