وهذا النوع من السجال لم يقتصر فقط على الجانب الفلسفي، فقد ظل علم الاجتماع منذ تأسيسه، وفي جل أطروحاته، وذلك قبل أطروحات كلود ليفي شتروس في ستينيات القرن العشرين، يرى تفوقا للعرق الآري على العرق السامي، ويصنف الآدمية إلى درجات ومراتب وينظر إلى البشر خارج أوروبا باعتبارهم تجارب مختبرية يمكن الاستفادة منهم في نظريات العلم مثلهم مثل الحيوانات.
ولم تلغ الثورة الفرنسية بقيمها ذات النزعة الإنسانية ولا فلاسفتها هذه العنصرية المقيتة، ولم تتخفف منها على الأقل، إلا مع مجيء فلاسفة التمرد (أو فلاسفة ما بعد الحداثة كما يسمون) كان سلاحهم الفكر النقدي ومراجعة كل ما أنتجه الفكر الحداثي من قيم ومفاهيم وخطابات أسست جميعها للحضارة الغربية.
ناهيك بالطبع عن الأثر الكبير الذي تركته الخطابات الاستشراقية التي ساهمت مساهمة فعّالة في تركيب صورة عن التاريخ الفكري والفلسفي والديني والاجتماعي العربي الإسلامي أقرب ما تكون إلى صورة لا تمثل هذا الواقع التاريخي بقدر ما تمثل تصورات ورؤى ومناهج وغايات وأهداف المستشرق نفسه، رغم الإنجازات العظيمة التي حققها وعملها بعضهم بتأصيل ومثابرة كبيرين، والتي خدمت التاريخ الإسلامي نفسه.
ما تقدم من كلام ليس سوى إطلالة بسيطة حول موضع التاريخ الإسلامي ومجالاته المعرفية والاجتماعية في مسيرة وتطور المعرفة الغربية، استدعاها السؤال الذي صدر به المؤلف كتابه.
وعلى هذه الخلفية الذهنية للقارئ الغربي الذي لم ينفك يعيد إنتاج الصورة القدحية التي كونتها ثقافته الغربية عن الإسلام والمسلمين، وكونتها وسائل إعلامه تحت طائل ما يسمى (فوبيا الإسلام)، تأتي أهمية طرح السؤال، وما ينطوي عليه من دلالات تفتح الباب على مصراعيه لإعادة الاعتبار للفلسفة العربية، وإخراجها من الموضع الذي وضعت فيه من طرف الفلسفة الغربية.
فمنذ صفحاته الأولى يضع المؤلف بين يدي القارئ الهدف من الكتاب (... أن يبين أن الفلسفة العربية - كما تجلت في الفترة من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر- هي جزء لا يتجزأ من التاريخ الفكري للإنسانية).
ويستدل على هذا الانتماء إلى التاريخ الفكري الإنساني بنقل واحد من نقول عديدة موثقة رغم «التجهيل» الذي يطالها، وهي (نحن نستخدم اليوم حججا من فلسفة العصر الوسيط العربية دون أن نعرف أنه تمت صياغتها من حوالي عشرة قرون مضت في عالم يمتد من قرطبة إلى بغداد).
ويضرب مثلا على ذلك (التمييز بين الجوهر والوجود الذي يسري في الفلسفة الكلاسيكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر والذي صاغه فيلسوف القرن العاشر ابن سينا، حينما كان يقرأ ميتافيزيقا أرسطو).
بيد أن التأصيل المبدع الذي يثير الإعجاب بالفلسفة العربية - عندما يشير إلى مصطلح الفلسفة العربية فهو يعني الفلسفة التي كُتبت باللغة العربية بغض النظر عن موطن الفيلسوف نفسه - ويفارقها كوريثة عن الفلسفة اليونانية هي أنها لم تحاول أن تحتمي بعلم الكلام للدفاع عن نفسها، وإنما حاولت تبرير نفسها من خلال ما اصطلحت على تسميته بالشريعة. ومن هنا تأتي أهمية استشهاداتهم بالآيات القرآنية باعتبار أن الحقيقة واحدة. لكن طرق الوصول إليها متعددة كما هي تأصيلات ابن رشد وفلسفته.
@MohammedAlHerz3