حرصت على تحقيق الطريق والتأكد من وجود أماكن ذكرها أغلب العلماء واتفقوا عليها
الأبحاث العلمية تكتب من أجل الإضافة والمعرفة وليس للترقية
• حدثنا عن بداية تحويلك لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى تاريخ مكاني ملموس؟ - حينما نستطلع سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- نجدها محصورة وتدرس إما للمتخصصين في الدراسات الإسلامية أو الشريعة، وبحكم تخصصي كمعماري في تخطيط المدن، أرى أمورا من زاوية أخرى لأن لدي البعد المكاني، من هنا جاءت فكرة تحويل السيرة النبوية كلها وإبرازها من جانب تاريخي مكاني، وعند الحديث عن المكان فهذا يعني رؤية السيرة «ملموسة»، حتى لو كنت قرأتها كتاريخ ولكن أريد أن أراها متجسدة، من هنا بدأت في العمل قبل حوالي 20 عاما على «جغرافية السيرة النبوية»، وهذا اسم جديد مبتكر ولم يطلق على السيرة النبوية سابقا، فالعلماء السابقون تحدثوا عن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أقواله وأفعاله وتقريراته، منهم مَن اعتنى بالناحية الحديثية أو الفقهية، ولكن الناحية الجغرافية وإن كانت موجودة في ثنايا الكتب فلم يُفرد لها شيء، لذلك كانت لديّ رغبة في إبراز هذا الجانب من السيرة بحكم تأثري بالتخصص، وبالتأكيد حين نرى علم نظم المعلومات الجغرافية ونظم الرصد العالمية من الإحداثيات فالمسألة تكون سهلة، فحين يتم التعرف على الموقع يكون من السهولة إيصال المعلومة.
• لماذا عملت على توظيف البعد المكاني للسيرة؟ - لأن الحياة دائما مرتبطة ببعدين، هما البعد الزماني والبعد المكاني، وغالبا المكان لا يطرأ عليه تغيير وإنما الزمان هو الذي يمضي، كما أن السرد التاريخي يرتبط بالزمان بينما الجغرافيا ترتبط بالمكان، فقليل مَن يعمل تحليلا مكانيا من القارئين للتاريخ، لذلك نجد هناك فصلا تاما بين الزمان والمكان، وهنا يقع مكمن الإشكال الذي جعل الأشخاص يزهدون أيضا في تخصصي التاريخ والجغرافيا، وأنا أختلف تماما مع هذا الأمر.
• كيف ركزت على الطرق التي سلكها الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ - مع التعرف على هذه الأماكن جاءت فكرة التركيز على الطرق، التي سلكها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، من ضمنها رحلة الهجرة النبوية، التي تعد الفيصل في مسيرته، فحين نقرأ في مسيرة الهجرة النبوية نجد أن القصة لا تزال معقدة، وتحمل مصطلحات قد تكون للبعض «طلاسم»، وبالتالي حرصت على أن يتم تحقيق الطريق والتأكد من الأماكن، التي ذكرها واتفق عليها أغلب العلماء، والتحقق مما إذا كانت موجودة أم مندثرة، وهل لا يزال اسمها باقيا أم تغير؟ وهل فعلا المسار مر من هنا أم من جهة أخرى؟ وهذا تطلب قراءة ليس فقط في النصوص بل في المعاجم أيضا، وترجمة كلمات ومصطلحات مع النزول الميداني ومقابلة أهل المنطقة والتحقق من المعلومات، كما أن الآيات وتفسيرها من قبل العلماء سهلت علينا التحقق من المواقع والطريق.
• ما الآليات التي اعتمدت عليها خلال مراحل البحث والوصول للمسار؟ - كل عمل قمت به إضافة إلى الروايات التي تم تتبعها نشرت بحثا محكما لها، أي أنه متاح للعلماء أن يقوموا بالإضافة والتقويم والمساعدة، فحين ينشر في مجلة فهذا يؤكد مصداقية العمل، ثم جمعت كل مَن حاول أن يرسم خريطة ابتداء من عاتق البلادي -رحمه الله تعالى إلى آخرها-، وهي خريطة مركز الدراسات والأبحاث في المدينة المنورة، وقمت بمتابعتها وتحليلها وتقييم دقتها ووضوحها وتغطيتها وشموليتها، ونشرت بحثا محكما على ذلك في مجلة علمية، وبعد هذا التحليل والجهد أصدرت الطريق، الذي ارتأيت أنه طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونشر كذلك في مجلة محكمة.
• هل وجدت اختلافا في الخرائط بالرغم من التغيرات البيئية والتضاريسية؟ - ميزة وأهمية الخرائط القديمة أنها تحفظ الواقع السابق، فالسيارات بعد أن غزتنا دمرت الكثير من المعالم والمواقع وغيرت من طبيعة الأرض، كما أن وجود المعدات سهّل من اختراق وتكسير الجبال، بينما في السابق كان يتم التعامل مع الطبيعة كما هي، وبالرغم من توافر الإمكانات والقدرة لديهم، فإنهم اختاروا احترام الطبيعة كما هي، ويجب علينا أن تترك على ما هي عليه، لأن التاريخ سيفقد لو اختفت المعالم الطبيعية، بغض النظر عن الآثار البيئية، وبالنسبة للمسار فقد تم وضعه في مكانه الصحيح بغض النظر عن التغيرات البيئية الحاصلة والخرائط المساحية القديمة التي يتم ربطها، فالإحداثيات كما هي لم تتغير منذ قديم الزمان وحتى الآن، وهذا ما يبعث الطمأنينة للباحث.
• حدثنا عن كتاب «الهجرة النبوية المصورة»، الذي يعد لُب معرض الهجرة؟
- من خلال السير على الطريق، والانبهار بالمعالم الطبيعية الموجودة، والجبال والأودية والثنايا، جاءت فكرة كتاب «الهجرة النبوية المصورة»، وذلك لأن الأغلب لا يهمه قراءة البحث العلمي المحكم؛ كونه ليس بباحث، ولكن «الهجرة النبوية المصورة» سهل القراءة ومتابعة الصور، خصوصا اليوم ومع عصر السرعة، الكتاب حقق انتشارا واسعا على مستوى العالم، وعليه تواصل معي مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء» وأبدوا رغبتهم في عمل معرض وفيلم وثائقي حول الهجرة.
• كيف كان التعاون والعمل على المعرض مع مركز «إثراء»؟ - بدأ العمل قبل 3 سنوات، وتم النزول الميداني والاطلاع على المواد العلمية، وعقد عدد من المحاضرات والورش بحضور فرق كبيرة جدا من المركز، وذلك للاطمئنان على أن المادة المتوافرة دقيقة وعلمية وصحيحة، وصاحبتنا في الميدان فرق تصوير، ومكثنا 3 أسابيع في الطريق، والجميل في المعرض أنه شارك فيه عدد من الكتّاب العالميين والفنانين ليخرج بهذه الصورة المتكاملة، وجاء بطريقة تلبي شغف غالبية أفراد المجتمع، وتقدم لهم بعض الأبعاد المتعلقة بالهجرة، كما نهدف أن يخرج المعرض إلى خارج المملكة، وبالتالي يخاطب غير المسلمين وكل الشرائح لإيصال هذه الرسالة النبيلة المتجسدة في بعض أجزاء السيرة وهي «طريق الهجرة النبوية».
• ما الإصدارات الداعمة لمشروع طريق الهجرة النبوية؟ - أصدرت مجموعة من الكتب بعضها متعلق بالروايات وآخر بالخرائط والرسومات، وإنتاج أول خريطة، إضافة إلى بحوث ومراجع تولدت خلال العمل على «الهجرة» بمعدل 10 أبحاث كل واحد مكمل للآخر، إضافة إلى تطبيق رقمي لمسار الهجرة متاح للجميع، ويتيح للأشخاص السير والتفاعل، ما ولّد حراكا للمشي في هذا المسار، وتختلف مدة السير بحسب جدية ونشاط الأشخاص.
• كيف دعمت المقتنيات الأثرية الموجودة في المعرض؟ - هناك مخطوطات متعلقة بالسيرة والقرآن الكريم، إضافة إلى بعض القطع للأميال الحجرية، وقطع مرتبطة بمكة المكرمة والمدينة المنورة، مثل كسوة الكعبة وستائر الحجرة الشريفة، فمثل هذه المقتنيات تثري وتربط الزائر بالتجربة، إضافة إلى وجود محاكاة لبعض الأحداث، التي من شأنها تحفيز مخيلة الزائر وربطه بالأحداث، كما تم استكتاب بعض المخطوطات مثل «وثيقة المدينة»، وإضافة بعض اللقطات لمصورين عالميين، منهم بيتر ساندرس، الذي صاحبني في الرحلة، وذلك بهدف توضيح عالمية هذا المسار، وأن هذه الرسالة للجميع.
• ما أقدم مخطوطة أو قطعة موجودة في المعرض؟ - هناك أكثر من جهة تعاونت، وهناك مخطوطة تعود لأكثر من 600 عام، أما المجسمات والمنحوتات، فهناك قطع تعود إلى آلاف السنين تمت استعارتها من المتحف الوطني بالرياض.
• كيف يمكن للزائر تقصي مصداقية بعض المقتنيات والمعلومات التاريخية؟
- كل قطعة أو صورة أو معلومة موجودة تحمل وصف من أين أُخذت وفي أي عهد كانت موجودة، وهناك مختصون يقيمون ويدققون ذلك بطرق وأساليب مختلفة، والميزة في الجهات والمؤسسات الموثوقة أنهم لا يمكن أن يعرضوا شيئا إلا بعد تحري الدقة بشكل واسع، إضافة إلى أن هناك قائمة باللجنة العلمية لطمأنة الزائر.
• ما أبرز التحديات التي واجهتها أثناء رحلة بحثك في طريق الهجرة النبوية؟ - التحديات تكمن في أن الإنسان يبدأ في بحث معين ويفاجأ بأن الموضوع يأخذ منه سنين، فمثلا هناك ميل حجري لم أجده إلا بعد 14 عاما، وهناك جانب آخر وهو المخاطر والمفاجآت غير المتوقعة، ومن المصاعب أيضا اختفاء وتغير بعض المعالم من جبال وحرات وغيرها، وبالتالي دائما في التخطيط نعد المحددات للمعالم الطبيعية والتاريخية، ويجب الحرص على عدم إزالتها للحفاظ على التاريخ والطبيعة، فهناك حلول كثيرة بديلة لاختراق جبل أو حرة، أبسطها بناء طريق تحت الأرض.
• ما الذي كان يدفعك للاستمرار؟
- أولا تشجيع الناس وتقديرهم، إضافة إلى تقدير الجهات لهذا المجهود، مثل «إثراء»، بالإضافة إلى أنه بفضل من الله عز وجل وضعني لهذا الدور، كما أن رؤية الإنتاج والرسالة تجعل الإنسان يستمر، خصوصا إذا لم يكن الشخص مجبورا على هذا العمل إنما هو تسخير وشغف، لذلك أدعو أن تكون هناك مؤسسات وجهات تدعم الباحثين، خصوصا الميدانيين، وتترك مساحة لهم مع مرونة في الوقت والمنهجيات، مع ضرورة وضع بعض المعايير بالتأكيد، وذلك لضمان استمراريتهم وشغفهم.
• ما رأيك في استخدام الأبحاث العلمية بهدف الترقية؟ - أقدم رسالة للأكاديميين، زملائي وزميلاتي الذين أقدرهم وأحترمهم، ولكن الغالب يكتب بحثا ويقدمه من أجل الترقية، وهذا لا يصح، على مَن يكتب البحث أن يكتبه من أجل الإضافة والعلم والمعرفة للحقل، وألا يكون النشر بهدف الترقية، ولكن بعد أن تظهر أهمية البحث، وأن فيه إضافة حقيقية، لا يضر أن يتم استخدامه لذلك وليس العكس، وهذا سبب تأخرنا في البحث العلمي والابتكار، وهو الاضطرار لتقديم بعض الأبحاث التي لا تحمل قيمة علمية حقيقية، فيجب أن تكون هناك بصمة لكل باحث وألا يقدم أبحاثا ومواضيع مكررة.
• هل هناك استكمال لمعرض الهجرة.. وما الذي تعمل عليه مستقبلا؟ - هناك الكثير القادم من معارض وكتب وأبحاث، وانتهيت مؤخرا من كتاب «طريق الحج النبوي» وسيتم إطلاقه قريبا، وسيرافقه معرض خاص بنفس مستوى الهجرة وأعلى بإذن الله، وكل كتاب قادم سيرافقه معرض متنقل، حتى نُري الآخرين أننا بلد له عمق وبعد تاريخي.
• رسالة أخيرة تقدمها للقارئ.. - بلدنا المملكة العربية السعودية هي أرض الحضارات، ويجب أن نفخر بها، ولا نستقِل ما هو موجود، فلدينا كنوز كثيرة، ولكن يجب معرفة وتقدير ما فيها، ولو كانت هناك أرض أفضل من هذه الأرض لاختارها الله عز وجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولاختارها لنزول كتابه، ولا يوجد أعظم من ذلك، فيجب أن نقدر الأرض التي نحن عليها، وهذا لا يعني أن بقية الأراضي ليست لها قيمة، بل إن لكل سنتيمتر على الأرض خصوصيته وقيمته، فعلى كل شخص أن يقدر كل مكان هو عليه، وأن يعيش اللحظة ويتأمل المكان الذي هو فيه سواء بطبيعته أم بصناعة البشر، وأن يتفاعل معه وينقب عنه ويتعايش معه.
شكلت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، التي قطعوا خلالها مسافة تقارب 400 كيلو متر خلال 8 أيام، حدثا محوريا في تاريخ الإسلام، أراد أستاذ التخطيط الحضري والإقليمي بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، الخبير والباحث في الهجرة النبوية والمسارات والمواقع التاريخية د. عبدالله بن حسين القاضي، التركيز على إبراز البعد المكاني من هذه الهجرة، وتحويلها إلى حدث ملموس، فعمل منذ 20 عاما على هذا المشروع، أصدر خلالها مجموعة من الكتب والأبحاث والإصدارات المكتوبة والمصورة، التي تخص كل ما يتعلق بالهجرة النبوية الشريفة، لينطلق منها معرض هو الأول من نوعه بعنوان «الهجرة: على خطى الرسول صلى الله عليه وسلم»، بالتعاون مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء» ومجموعة من الشركاء والخبراء والفنانين، بهدف تقديم مفهوم أعمق لهذا الحدث العظيم، وإثراء وعي المسلمين وغير المسلمين من جميع أنحاء العالم.