بينما توجه مهدي عامل إلى نقد الطبقة البرجوازية وتمظهراتها القومية في تحالفها الضمني والمتواطئ مع نظام الطائفة في تكريس ما كان يسميه شكل الدولة المعلقة، وكان نقده في (الفكر اليومي) حادا وقويا، بحيث كان يتعارض تماما مع ما كان يُخطط له في الساحة السياسية اللبنانية سوريًا وإيرانيًا.
في واقع الأمر، لقد كان قادة اليسار اللبناني أغلبهم من الشيعة، وكان في الطرف المقابل حزبان: الأول هو حزب الدعوة الإسلامي السلفي، الذي يمتلك قواعد له في إيران والعراق هو شيعي، الذي له تاريخ إرهابي سيئ في ثمانينيات القرن الماضي بالكويت، وأيضا في العراق من قتل وتفجير سفارات ومقاه وخطف راح ضحيتها الكثير من الأبرياء، والآخر هو حزب الله المتشكل للتو على أيدي الحرس الثوري، بحيث كانا يجدان في هذا اليسار الشيعي خطرا يهدد مشروعهما، ويهدد مكانتهما في الوسط الاجتماعي الشيعي.
في هذا السياق، حصدت آلة القتل هذين المفكرين، ولم يتوقف القتل عندهما، بل طال في العقود اللاحقة رجال أدب وسياسة وفنانين، وكل مَن له جرأة على انتقاد حزب الله وتحكمه في الدولة والمجتمع، آخرهم الكاتب والصحفي والناشر لقمان سليم، دون أن أذكر بالطبع السياسيين، وعلى رأسهم رفيق الحريري.
عندما نعيد قراءة سياسات الاغتيالات في الوطن العربي من زاوية أخرى، ونحاول ربطها بسياقاتها التاريخية تتجلى أمامنا جملة من الحقائق:
أولا- الأحزاب الإسلامية السياسية سنية كانت أم شيعية تتغذى بعضها من بعض، ويتعلم واحدهما من الآخر طريقة إسكات الخصوم إما بالطعن أو بمسدس كاتم الصوت، رغم اختلاف الإيديولوجيات والأهداف والغايات. كما حدث على أيدي متطرفين إسلاميين جهلة في مصر اغتالوا الكاتب فرج فودة عام 92م، وآخرون طعنوا الروائي نجيب محفوظ عام 95م، وكما أيضا حدث عندما اغتال نظام الملالي الإيراني الشاعر والفنان فريدون فرخزاد في منزله بألمانيا عام 92م. والأمثلة لا تعد ولا تحصى على الاغتيالات، التي اختلطت فيها الدوافع السياسية المغلفة بروح الدفاع عن العقيدة الإسلامية.
ثانيا- الأحزاب الأخرى من علمانية وقومية وشيوعية أيضا لم تكن بعيدة عن تلك السياسات، فالمد الشيوعي السوفيتي، خصوصا حقبة جوزيف أستالين كان له التأثير الكبير على مثل هذه الممارسات باعتبارها تقليدا طبيعيا في السياسة. فالتقليد يقتضي كتم الأصوات التي تتعارض مع سياسة الحزب الشيوعي، كما حاول ستالين في الأربعينيات اغتيال الممثل الأمريكي جون واين المشهور بتمثيل أفلام الغرب الأمريكي، الذي كان الرفيق ستالين معجبا بها. لكنها محاولة لم تفلح. وهذه دلالة إذا ما اجتمع الفكر الشمولي مع سياسة العنف مؤداه سيكون القتل والتصفيات الجسدية، قد تكون ليست لها علاقة بالسياسة، كما في حالة هذا الممثل الذي جاهر بعدائه للاتحاد السوفيتي فقط، فصنفه ستالين تحت أعداء الاتحاد السوفيتي، فيستحق الموت.
هذه هي المعادلة، التي طبقتها الأحزاب السياسية العربية مع خصومها، حزب البعث بشقيه السوري والعراقي طبقها بقوة. النظام السوري على سبيل المثال اغتال رسام الكاريكاتير الشهير أكرم رسلان داخل السجن 2013م، والكاتب والمؤلف البارز عدنان الزراعي قتله تحت التعذيب.
ثالثا- العامل الذي ساعد أيضا على توطين مثل هذه السياسات أن الدولة لحظة تشكلها في الوطن العربي لم تكن سابقة على تشكل الأحزاب، فالعكس هو الصحيح بينما كانت الدولة القومية في الغرب لها سيرورة تاريخية لا تقل عن ثلاثة قرون تزامن فيها الفكر القومي وتنظيراته مع تشكل الدولة ذاتها.
@MohammedAlHerz3