لغويا، الجسر مشتق من مادة «جسر»، وهي تعني الأقدام والضخامة، وكثيرا ما سميت الجمال بالجسور. هذا ما عناه طرفة بن العبد في معلقته عندما وصف ناقته بالقنطرة في واحدة من ألمع صور الربط بين العمارة وبيئتها عندما قال:
وإني لأمضي الهم عند احتضاره بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
كقنطرة الرومي أقسم ربها لتكتنفن حتى تشاد بقرمد
هذه قراءة أدبية لما كان يفترض أن تكون عليه الجسور لدينا، أي ربطها بالبيئة الطبيعية والثقافية، التي تبنى فيها.
من المعروف بديهيا أن الجسور معابر فوق الأنهار، ونظرا لخلو الجزيرة العربية منها فقد خلت مفردات العمارة العربية منها. ترجع أول حاجة العرب للجسور أثناء موجات الفتح الإسلامي، فقد شكلت الأنهار في العراق والشام معضلات أساسية لتقدم جيوش الفتح، وقد أسهب المؤرخون في ذكر بطولات لأفراد في التغلب على هذه المعضلات، وإنشاء جسور مؤقتة لعبور تلك الأنهار. هنا كانت الجسارة، ومن هنا استمد المصطلح معناه.
تاريخيا، كانت الجسور علامات فارقة في تاريخ تطور أساليب البناء والهندسة، وقد أسهمت هندسة الجسور في تطور العمارة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى استخدامها للحديد، وإلى المسافات العريضة، التي يوفرها الجسر للبناء والهيكل ولمستخدميه. كل ما ذكر أعلاه هي حقائق أساسية في عمارة الجسور، غير أنها باختلاف صورها حقائق قد باتت اليوم لسكان المدن في غياهب النسيان.
فقد أصبحت جسور اليوم لدينا معابر ليس فوق أودية أو أنهار، ولكن فوق شوارع للسيارات. لقد أصبحت المدينة اليوم شبكة معقدة من الطرقات، وعندما تتقاطع مع بعضها فإنه من المحتم إنشاء جسور في نقاط التقاطع تلك لتفادي الازدحام المروري. وبالرغم من نجاعة الجسور في تسهيل مهمة السير وفك الاختناقات المرورية، إلا أن كثرة الجسور قد أدى بالمدينة لأن تكون مدينة مواصلات، مدينة سير مستمر لا يتوقف، وكأن مرتادي تلك الطرقات في حلبة سباق دائم. وفي هذا الجانب تحديدا قد لا يقع عاتق اللوم على الجسور ذاتها، بقدر ما يقع على الرؤية الشاملة للمدينة، ومفهوم التنمية الحضرية فيها، بما في ذلك شبكة المواصلات، التي تعتبر الجسور ركائزها الأساسية.
الجسور لدينا تعطي انطباعا عاما وكأنه تم جلبها من مسافات بعيدة من خارج المدن إلى قلب المدينة. لا تختلف الجسور داخل العاصمة عن تلك المبنية على طرق برية في أقصى شمال المملكة أو جنوبها. هنا فقد الجسر انتماءه للمكان، وأصبح مجرد كتلة خرسانية ضخمة تم جلبه من أماكن قصية فقط لمجرد عبور السيارات. أما الاعتبارات الجمالية المتعلقة بالمشهد البصري للمدينة فهي غائبة تماما أو تكاد (جسر وادي لبن استثناء متميز لذلك) في معظم الجسور في كل مدن المملكة.
ربما كان السبب وراء ذلك هو مرجعية هندسة الجسور ذاتها والآلية الإدارية المتبعة في إنشائها. فإذا كانت الجسور خارج نطاق المدن من اختصاص وزارة المواصلات، فإن الجسور داخل المنطقة الحضرية للمدينة يجب أن تكون مرجعيتها للأمانات والبلديات. وهنا يمكن لهذه الأخيرة أن تجعل من هذه العناصر المفصلية في هندسة المدينة عناصر جمالية بامتياز.
لقد أصبحت الجسور علامات بصرية وذهنية واسترشاد بالمكان انطبعت في ذاكرة الناس. لقد آن الأوان أن ننظر للجسور لا مجرد كتل ضخمة من الخرسانة، بموجب روتين إداري، بل كما رآها طرفة في معلقته. كم نحن بحاجة إلى شعراء في التنمية على غرار طرفة ومعلقته.