تعج الآداب العالمية بأعلام كبار ومبدعين ضخام في ثقافاتهم، بيد أن القلائل منهم من بلغ درجة العالمية، ومعيار العالمية يتحدد بمن ترجمت أعماله إلى اللغات الحية وخلدت روائعه في الثقافات البشرية، وتأثر به أدباء آخرون حتى نقش اسمه في قائمة الخلود الإبداعي والإنساني.
يعد الأدب الإنجليزي ذا قيمة فنية بين الآداب الإنسانية لكن شكسبير وحده يظل هو الأسطورة، لقد حرص هذا العظيم على تثقيف نفسه بنفسه، وكان ملما بأحداث التاريخ الإنساني لدرجة المؤرخ، هذه الثقافة التاريخية الكبيرة انصهرت مع موهبته الذاتية وولعه في الشعر والمسرح فأنتجت هذه الروائع الخالدة، ما أعنيه هنا أن ثقافته الموسوعية هي التي أعطته بعدا إنسانيا عابرا للزمن، فمعرفته العميقة بالشخصيات التاريخية مكنته من تحويلها إلى أعمال فنية خالدة، وعلى الرغم من مرور أربعة قرون على وفاته إلا أنه لا يزال يتربع على قائمة الأدب الإنجليزي.
في العصر الحديث، هناك الشاعر الأمريكي الشهير ت. س. إليوت، وهو مثال أيضا لهذه الدرجة الإبداعية العظيمة، فقد أطلق عليه النقاد لقب ديكتاتور الأدب الإنجليزي، ويعد من القلائل الذين جمعوا بين الإبداع في الأدب والنقد، ففي شبابه كان منهمكا بالقراءة والاطلاع لدرجة كبيرة مما مكنه من خلق ثقافة موسوعية، هذه الذهنية الفسيحة جعلته يقدم فلسفة إنسانية شاملة في أعماله ميزته عن شعراء وأدباء جيله بل ورفعته وحيدا إلى مصاف العالمية، صحيح أن نظرته ورؤيته للحياة غريبة بعض الشيء ولاحقها العديد من الخلاف والجدل ولكن هذا لا يمنع علو شأنه وتقدمه الفريد على شعراء القرن العشرين.
وفي أدبنا العربي، هناك المتنبي، وهو عند العرب بمثابة شكسبير لدى الإنجليز، سيرته مفعمة بالحركة الزمنية المثيرة، من طفولته المجهولة في الكوفة إلى رحيله للشام وادعائه النبوة وسجنه إلى بلوغه حلب عند عرابه ومثاله الأعلى سيف الدولة الحمداني إلى انتقاله لمصر ومأساته مع حاكمها الأخشيدي إلى انتقاله لفارس وحفاوته لدى بني بويه إلى مقتله المثير أثناء عودته للعراق، أما شخصيته فهي انفعاليه من الدرجة الأولى، وأما ثقافته وهذا ما يعنينا فقد كان ملما بعلوم اللغة العربية كما ذكر معاصره ابن جني، وأهم سمة معرفية كان يتميز بها المتنبي عن بقية شعراء العربية إلى اليوم هو معرفته الدقيقة بخبايا النفس الإنسانية، وهذا هو سر خلود أبياته وحكمه الشهيرة حتى الآن، وهو بهذه السمة يتشابه مع الأديب الروسي ثيودور ديستويفسكي، فكل هذه العوامل الثقافية والحركية والانفعالية هي مجموع شخصية المتنبي.
يقول الناقد الراحل رجاء النقاش: إن الثقافة لا يمكن أن تخلق موهبة، ولكن انعدام الثقافة يمكن أن يقتل الموهبة، وفي هذه النماذج الثلاثة نجد انصهارا عجيبا وعلاقة طردية بين الموهبة الإبداعية والثقافة الذاتية.
@albakry1814