منذ زمن بعيد، غير مُحدّد بدقة، كانت فنون الأداء والقول والحركة مثل العرضة والمزمار والزامل، تلخّص معاني الفروسية، وتؤدِّي دور الأغنية الوطنية الحديثة.
وحتى عهد موحِّد المملكة العربية السعودية، الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- لم تكن هناك موسيقى مدوَّنة في المملكة الفتيّة، أو ألحان وإيقاعات وفِرق موسيقية بالشكل الذي نعرفه اليوم.
أول أغنية وطنية سعودية
في عهد الملك الموحِّد عبد العزيز آل سعود -طيَّب الله ثراه- قدَّم الشاعر علي بن موسى السيف "بريدة - 1875 - 1946" الملقّب بـ"الملا علي" -الذي هاجر إلى الكويت مع والده واستقرّ فيها- أولى قصائد المدح في الملك، وكانت تحت اسم "أهلًا وسهلًا".
وفي البداية لم يُنشِدها علي، إنما أوصى المطرب عبد اللطيف الكويتي أن يُلقيها أمام الملك، خلال زيارته المملكة عام 1934م، فأعجبتْ الملك للغاية ومنحه عطاءً قيمًا.
بعد ذلك سافر عبد اللطيف الكويتي إلى مدينة حلب في سوريا، حيث سجّل اسمه على أوّل أغنية وطنية في أسطوانة "قار" عام 1940م.
وكان "السلام الملكي" (1945م) أوّل عمل موسيقي مدوّن وُضع للفرقة العسكرية، أما الأغنية الوطنية، فلم يظهر منها آنذاك غير واحدة للموسيقار المصري الكبير محمد عبد الوهاب، بعنوان "يا رفيع التاج".
أول فرقة سعودية
في عهد الملك سعود بن عبد العزيز -رحمه الله- الذي عُرف عنه حبّه للموسيقى واهتمامه بها، تكوَّنت أول فرقة سعودية على يد العميد طارق عبد الحكيم، الذي قدَّم مع أقرانه أولَّ أغانٍ سعودية وطنية، اتَّسمت بلونها الشعبي البسيط المستوحى من ألحان وإيقاعات المنطقة، كإيقاع الشرقيين والسامري والرومبا والمارشات العسكرية التقليدية.
وقدَّم طارق أغنية "يالله تحفظ سعود" فيما قدَّم عبد الله محمد "صفالي سعدي وطاب"، وهي على نفس لحن الأغنية الشهيرة "صفالي حبي اليوم".
وفي السياق نفسه، قدَّم طلال مداح -الناشئ آنذاك- "يا صاحب الجلالة يا مُحقق العدالة" و"غروس المجد"، كما قدَّم "سمير الوادي" -وهو الاسم الفني للفنان الكبير متعدّد المواهب مطلق مخلد الذيابي- أغنية "سعود يا سعود" وقدَّم الفنان الشجي فوزي محسون "ثامن الأعوام".
العرضات الشعبية والأغنية الوطنية
كان الراحل أبو سعود الحمادي من أوائل الذين أعادوا صياغة العرضات الشعبية التي كانت تُردّد قبل توحيد المملكة، وقدمها في قالب غنائي متفرّد، كان أهمها أنشودة "أشعلوها" من كلمات حسن عدوان، وكذلك نشيد "لا تجزعي" الذي كتب كلماته ولحَّنه أبو سعود الحمادي، وتغنَّى به عدّة فنانين في ذلك الوقت، منهم سعد إبراهيم في منتصف الخمسينيات.
بينما قدّم الفنان فهد بن سعيد "1941 - 2003" أغنية "هبّت جيوش العروبة" للراحل فهد بن سعيد، تماشيًا مع الحالة العربية في ذلك الوقت خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م.
وكانت للراحل طلال مداح وعبد الرزاق بليلة المحطة الغنائية الأهم في تاريخ الأغنية الوطنية، عبر رائعة "وطني الحبيب" عام 1960، وهي الأنشودة الخالدة في حب الوطن والأكثر تأثيرًا في وجدان السعوديين.
"روحي وما ملكت يداي فداه
وطني الحبيب وهل أحب سواه
وطني الذي قد عشت تحت سمائه
وهو الذي قد عشت فوق ثراه".
وغامَر طلال مداح بتقديم أغنية تعتمد على المارشات العسكرية في موسيقاها، وعلى إيقاع الشرقيين ومقام البيات الحنون في غنائها، من كلمات مصطفى بليلة وألحانه، تحمل عنوان "وطني الحبيب".
وأصبحت الأغنية لاحقًا واحدة من أشهر الأغاني الخالدة في البلدان العربية، بعد تطوير لحنها لتصبح أغنية وطنية وعاطفية في الوقت نفسه.
وفي عهد الملك فيصل ثم الملك خالد -رحمهما الله- تفجَّرت إبداعات الفنانين السعوديين بعد تمرسهم على الفن واحتكاكهم بموسيقيين كبار.
فقدم طلال مداح ملحمة وطنية من كلمات الأمير عبد الله الفيصل ولحن طارق عبد الحكيم بعنوان "أفديك يا وطني"، وروائع مثل "صناع المجد" من كلمات المذيع والمعلق الرياضي الشهير علي داوود وألحان سراج عمر.
أغاني المدن الوصفية
كانت للشاعر السوري مسلم البرازي، الذي كان يعمل في إذاعة الرياض، مساهمة بأغنية "فيصلنا يا فيصلنا" التي لاقت رواجًا كبيرًا.
وكان مسلم من أوائل الذين طرقوا باب الأغنية الوطنية من خلال وصف المدن بشكل عاطفي والتغنّي بها، فكتب للفنان محمد عبده أغنية "مرني بجدة" وكتب لطلال مداح أغنية "حايل بعد حيي" التي يقول فيها:
"يا نسمة الوادي
يا وردة في بلادي
حايل ربى الشادي
يا نرجس وكادي".
ومن روائع هذا اللون الغنائي، رائعة "أبها" لطلال مداح التي كتب كلماتها المصري أحمد رجب الذي كان مُدرّسًا مُنتَدبًا في أبها وقتها، ويقول فيها:
"لا تلوموني في هواها.. قبل ما تشوفوا بهاها
هي بس اللي هويتها.. قلبي ما يعشق سواها".
وشكَّلت أغنية "وطني الحبيب" ثم "منار الهدى" و"يا بلادي واصلي" وغيرها، أرضًا خصبة، لبناء الفنانين فوقها وتقديم إبداعاتهم.
وقدَّم الفنان الراحل سلامة العبد الله عددًا من الأعمال الوطنية الشهيرة في عدّة مناسبات، أكثرها شهرةً مارشية "الخير يا موطني":
"مضينا بعزم يفلّ الحديد
نقيم البناء لفجر جديد
أردنا لك الخير يا موطني
بعزم أكيد يفل الحديد".
هذه المارشية المبتكرة من سلامة العبد الله، لا تقلّ جمالًا ولا خلودًا ولا تأثيرًا عن غيرها، مثل رائعة أبو بكر سالم بلفقيه "يا بلادي واصلي" التي ظهرت في داية الثمانينيات بشكل مختلف.
وتجلَّى الحب والانتماء من خارج الوطن، حينما شارك اللبناني سعيد فياض أنشودة وطنية مع الملحن الكبير سراج عمر في رائعة "بلادي بلادي منار الهدى"، التي فضَّل سراج التغني بها بصوته، ليمنح اسمه خلودًا في مسيرة العمل الوطني، حتى كانت ضمن الأعمال المرشحة لأن تكون سلامًا وطنيًا، وتقول كلماتها:
"بلادي بلادي منار الهدى
ومهد البطولةِ عبر المدى
عليها ومنها السلام ابتدا
وفيها تألّق فجر الندى
حياتي لمجدِ بلادي فدِا
بلادي بلاد الإباء والشمم
ومغنى المروءةِ منذ القدم".
وفي منتصف الثمانينيات قدَّم الفنان محمد عبده أغنيته الشهيرة "فوق هام السحب" من كلمات الأمير بدر بن عبد المحسن التي ما زالت تذاع لليوم، ويحتفل بها السعوديون في كل مناسبة.
الأغنية الوطنية في العهد الزاهر
تؤكد الأحداث والنقلات القوية في المملكة، من عاصفة الحزم حتى محاربة بؤر الإرهاب والتطورات الاجتماعية، أن الأغنية السعودية ترجمان حال الوطن، إذ تعكس تفاعله ونموه وتطوره طوال الوقت، وتحفّز الناس وترسّخ فيهم مفهوم المواطنة الحقة.
وتحت راية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- سجلت الأغنية حضورًا مميزًا، وكانت خير مترجم لمشاعر الشعب المبتهجة منذ بيعة خادم الحرمين الشريفين ملكًا للبلاد.
وقدَّم الفنانون أعمالهم مستبشرين بعهد جديد ونهضة كبيرة، منها أعمال محمد عبده من أغانٍ وطنية جديدة تعكس الحال الراهنة للمملكة، كأغنية "حنا رجال أبو فهد" و"سيدي سلمان" و"حيي سلمان"، وأغنية أخرى حملت عنوان "أبشري يا دار"، واشترك مع راشد الماجد في عمل "ديو" بعنوان "حيوا الجيش السعودي".
كان هذا لتأكيد أهمية الأغنية الوطنية وضرورة حضورها في المناسبات الشعبية الكبيرة، لتكون وثيقة تعكس مشاعر الناس في هذه الفترة.
وقدَّم الفنان راشد الماجد أغنية بعنوان "سمو المجد" حظيتْ بنجاح كبير بعد صدورها، تتحدث عن الواقع الراهن بكل ما فيه من منجزات اقتصادية وسياسية.
وأصدر الفنان رابح صقر أغنية "لبينا المنادي" مطلعها "ثور الدخان لبينا المنادي.. في ذرى سلمان يا خطل الأيادي.. من يعادينا له سيوف الهنادي.. ودام عز المملكة يا سيدي سلمان"، كما قدَّم أغنية "عاصفة الحزم" معبرًا عن التكاتف الخليجي والعربي خلف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- والوقوف معه صفًا واحدًا ومع الدول الإسلامية في الائتلاف لحماية الشرعية في اليمن من الميليشيات الحوثية.
وقدَّم صقر أغنية "أنت ملك" التي تعبِّر عن شخصية خادم الحرمين الشريفين وقد نالت شهرة عربية واسعة.
وغنى عبد المجيد عبد الله أغنية "لك عهد جديد"، وأغنية "ارتاح يالشعب السعودي".
كما كان للمطرب الشاب إسماعيل مبارك حضور بأغنية "مساء الوطن والحب"، وللفنان رامي عبد الله أغنية "يا هلا بالحرب".
فيما شارك تركي بندر في الرَكب بأغنية "جنود الوطن"، وحرص غيرهم كثيرون من المطربين الشباب على المشاركة في مظاهرة الوطنية والحب.
إنها أغانٍ تعبّر عن إحساس الفنانين بواجبهم الوطني وضرورة حمل وجهة النظر السعودية ونقلها إلى العالم، إلى جانب عكس الحالة الشعورية للشعب ومدى ترحيبه وفخره وتقديره لمواقف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- تجاه كل القضايا المحلّية وقضايا الأمة المصيرية.