كل الأوجاع في حياة أي إنسان عصية على التعبير الفني، ولا توجد لغة فنية كاملة تكافئها تماما، وإلا لكنا وجدنا كل قضية هامة، أو مأساة إنسانية تتحول من موضوع يعبر عنه نصيا، إلى علاقة لونية، أو التقاطة فوتوغرافية، أو نوتة موسيقية، أو نبرة صوتية، أو مجسم حسي. ولكانت الفرشاة والكاميرا والريشة والإزميل أدوات دقيقة في تجسيد واقع البشرية بجلاء.
والأمر ذاته على صعيد الأدب، فإن الكاتب قد ينضب، وتخذله الدربة أحيانا، وقد تداخله اللدة أحيانا أخر، ويحتاج أن يستدعي حواسه، ويستحث خياله كي تحاوده الكتابة مجددا، وتتناهى أفكاره بأناة، وتسف كلماته بهوادة.
عندما لا يتمكن الكاتب الأمريكي إرنست همنغوي من الاستمرار في الكتابة كان يقول في نفسه: «لا تقلق، لقد كنت تكتب دوما من قبل وستكتب الآن. كل ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة»، ويعني بذلك جملة تمخضت في باطنه، فكانت وليدة معاناة حقيقية خاض غمارها بنفسه، ليست مصمتة ولا مقتبسة، أو مجرد جملة آنية برع الذهن في سبكها.
ولأن الكتابة من الذاكرة وحدها لا تعطي أدبا على الإطلاق، فخبرة وتجربة الكاتب بدلا من أن يكتب عنها، بمقدوره أن يكتب بها. فعوضا عن الكتابة عن الألم، سنكتب بألم، وستتحول الكتابة عن الحب إلى الكتابة بحب، وهكذا، فنحن نكتب واقعا بكل هذه المشاعر التي تعترينا، وإن كنا لا نكتبها حقا.
أحيانا، ليس المهم في الكتابة ما قلناه، بل ما لم نقله، لذا، نحن في محاولات دائمة ومستميتة أن نكتب، لشعورنا الدائم بأنه لا تزال هناك أشياء عالقة في دواخلنا ترفض الخروج، وثمة طبقات من الكتابة المتكدسة لم يحن وقت خروجها، وأحداث متاخمة لنا طيلة حياتنا ستدفعنا للكتابة في أي وقت.
ما نكتبه يكتسب قيمته الفعلية من المستبعد والمطروق في آن معا، فطبقة الصوت الغاضبة وإن كانت تحمل على جناحيها عبارات ناعمة، إلا أنها ستفضح الغضب الذي يوغر صدر صاحبه، وانشغال الكاتب بالرجل المبتورة قد ينسيه أنها التي صنعت أهمية مضاعفة للرجل الباقية.
الكاتب البارع هو الذي يستطيع تحديد زاوية الرؤية للعمل الأدبي، وقد يكون على مرمى حجر من ذلك مع كتابة السطر الأول. فتلك الزاوية ستتيح له رؤية أفقية نافذة في مسار العمل بالكامل، وسيترتب عليها نجاحه أو سقوطه. فالإشكال في عملية الكتابة ليس في قدرة الكاتب على الكتابة وحسب، ولا حتى في كونه هاضما للتجربة الكتابية، بل في نجاحه في تحديد تلك الزاوية التي ستتيح له رؤية واسعة أو ضيقة، وستنعكس لاحقا على رؤية القارئ للعمل الأدبي.
في التحديات التي تواجهنا، غالبا ما ننحو بالتفكير نحو طرح سؤالين مهمين هما: «ماذا؟» و«كيف؟»، وإذا ما كنا نطمح إلى الحصول على قطع أدبية نفيسة، شديدة الفرادة، فينبغي علينا أن نطرح على أنفسنا ذات السؤالين قبل الشروع في عملية الكتابة.
الكثير من الأعمال الأدبية تهبنا إجابات شافية لأسئلة تقبع في رؤوسنا، لكنها في نفس الوقت، تخلق في دواخلنا أسئلة جديدة لا نجد إجاباتها بين طيات العمل نفسه، مما يحرضنا على الوثب إلى مناطق بعيدة خارجه تجمعنا بالكاتب، لنرهف أسماعنا لما يقوله هو ذاته، لا ما تقوله صفحاته، فيبدأ التدفق السحري للجانب الخفي من العمل: الخطة، الكواليس، المحطات، العقبات، السقطات، المراجعات، المكان، وخلافه.
ففي النهاية، للعمل الأدبي طاقة محددة لا يستطيع أن يتجاوزها، ومسار معين لا يقدر أن يجنح عنه، وهذا ما يعزز أهمية القفز على أسوار العمل إلى مناطق خارجه.
@raedaalbaghli