@MustafaAlmahdi
الكلمة وهي تسطر بالقلم، والكلمة وهي تشنف الآذان في الخطب أو يشدو بها قصيدا يتردد، كانت ولا تزال أحد أمضى الأسلحة في الحرب والسلم. وهي وسائل وإن اختلفت عبر العصور، فإن العنصر البشري هو الثابت في معادلتها ما لم يحدث الذكاء الاصطناعي اختراقا ذا قيمة في هذا المجال. ويبقى الإنسان بسمعه وبصره وفؤاده هو المرسل والمتلقي والمستوعب والمدرك لتلك الرسائل بفهمه الخاص، وهو المؤثر والمتأثر بالمحتوى ولغة الجسد.
ولعل التفاوت في القدرات والمعارف هو ما يعطي الكلمة رشاقتها في الوصول إلى القلوب والعقول لتتجاوز القواسم المشتركة مع المتلقي في خضم اللحظة، وتضيف إليه أبعادا جديدة قد لا تتجلى لنا في حينها، وإنما يتسلل إلى ذاكرتنا رنينها بعد حين!
في هذا السياق تستحضر الذاكرة شخصية لا تزال تدهشني وأتوقف عندها كثيرا!
تلك الشخصية عدت استثنائية بكل المقاييس -ليس في عصرها فقط- وإنما عبر عصور من التأثير والقدرة على توظيف المهارة خدمة للمعتقد الجديد القويم.
تمثلت تلك الشخصية في إهاب رجل كان يعد أحد أبرز خطباء جيله، وما زال لسانه وبيانه هما سيفه ورمحه، اللذان ينافح بهما عن قومه. وتذكر المصادر أنه وقع في معركة بدر الكبرى أسيرا بين يدي المسلمين، حينها قال الفاروق عمر بن الخطاب لرسولنا -عليه الصلاة والسلام-: دعني أنزع ثنيتيه حتى لا يقوم عليك خطيبا بعد اليوم، فأجابه عليه الصلاة والسلام: كلا يا عمر!! لا أمثل بأحد فيمثل الله بي، ولو كنت نبيا. ثم أدنى الفاروق منه، وقال له: يا عمر لعله يقف غدا موقفا يسرك!
لقد كانت تلك من أخبار النبوة، التي تحققت فيما بعد. ففي صلح الحديبية، أرسلته قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفاوضا، ودعا الرسول -عليه الصلاة والسلام- علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ليكتب الصلح، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فاعترض الخطيب قائلا: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها علي -رضي الله عنه-، ثم قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قريشا. فرد الخطيب: لو شهدنا أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيلا بن عمرو..
نعم... تلك الشخصية هي خطيب مكة المصقع سهيل بن عمرو!
تمضي الأيام، ويتحقق النصر المبين بفتح مكة، ويسجل التاريخ تلك اللحظات الخالدة بعباراتها العظيمة، التي نفتقدها في عالم اليوم... تواضع المنتصر بقلب رؤوف رحيم: يا معشر قريش...ما تظنون أني فاعل بكم؟
هنا يعود سهيل ببلاغته وحسن عبارته مجيبا: أخ كريم، وابن أخ كريم..
لتأتي عبارات الصفح النبوي العظيم: اذهبوا... فأنتم الطلقاء!!
تلك لحظات الانتصار والغنيمة الكبرى في استحضار الرفق، وبمصطلحات عصرنا استثمار رأس المال البشري في بيئة سليمة ذات قيم رفيعة. قدرة لا يدانيها أحد في إدارة تغيير طارئ لمستقبل أفضل يتحول فيه «الأعداء» المنهزمون إلى صفوف رأس المال البشري المنتج برسالة ورؤية وقيم عظيمة.
ومن جملة أولئك الطلقاء كان الخطيب المفوه صاحب أجمل ثنيتين، سهيل بن عمرو -رضي الله عنه-، الذي عاد لفطرته المغيبة، ويستنير بنور الحق.
وتمر السنوات على الخطيب وهو يتقلب في يوميات العبادة والمعيشة في مكة ليكون على الموعد شاهدا على نبوءة سيد البشر، ويقف خطيبا بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، بكلمات تلامس العقل وتدق باب القلب في لحظة تاريخية حاسمة، وتشهد له بطحاء أم القرى أن خطبته، التي قرع بها من أراد الارتداد عن الإسلام من أهلها، كلمات من ثنايا مباركة طرد بها وساوس الشيطان، التي خالجت نفوس القلة، لتكون لحظة فاصلة وموقفا سر به الفاروق والصحابة أيما سرور، تصديقا لخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن دور سهيل وموهبته في صناعة التاريخ.
هكذا هم الموهوبون أفرادا وفرقا، وهكذا يستحق أن يعاملوا، رعاية بحنو، ورفق بغير شطط، بعيدا عن ظروف الزمان والمكان.
رفقا بالمواهب وإن ضعفت وخفت بريقها، أو انزوت في بيئة عمل رتيب أو في ركن بعيد! أعيدوا اكتشافها، اصقلوها، امنحوها الثقة، مكنوها، سوقوها لتعود لكم ومن أجلكم في الوقت المناسب والحاسم أكثر قوة وصلابة والتزاما وتفاعلا مع تحدياتنا وفرصنا ورؤيتنا في تحقيق رفعة الوطن على كل الصعد. وعندها ستكون المؤسسات والهيئات لها دور الريادة والسبق في التحول من مفهوم «إدارة المواهب» إلى «قيادة المواهب» لصنع المستقبل.
في الختام، هذه دعوة متجددة لكل قائد ملهم، ولكل مَن استرعاه الله موهبة أن يكون متسلحا بعقله ووجدانه وأدواته وقيمه -كل منا في موقعه-، وأن يبذل أقصى جهده لتنمو تلك المواهب وتزهر ثمرا يانعا لوطن جميل يستحق منا الابتكار والتميز ليبقى بحول الله في الريادة على الدوام.