أنزل رب العزة والجلال كتابه الشريف على خاتم أنبيائه ورسله "عليه أفضل الصلوات والتسليمات" باللغة العربية الفصحى، وقد تعهَّد "جلَّت قدرته وعُلاه" بحفظه في الصدور والقلوب، فبقيت لغتنا العربية محفوظة بحفظ كتاب الله، ولم تكن منذ أن عرفت قابلة للاندثار، كما حدث لكثير من اللغات، بل استمرت حيَّة يعتز بها أهلها، ويتعلمها الناطقون بلغتهم من المسلمين؛ للإلمام بأحكام العقيدة الإسلامية السمحة، وقراءة المصحف الكريم بالعربية، وقد اعتز العرب بلغتهم اعتزازًا شديدًا، فقد روي أنه قدِم رجل من البادية في خلافة عمر بن الخطاب، وطلب مَن يُقرئه شيئًا من كتاب الله، فأقرأه رجل سورة براءة، فقرأ: (... أن الله بريء من المشركين ورسوله..) «بالجر»، فقال: أو قد برئ الله من رسوله؟ إن كان الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر بن الخطاب، وقال له: تبرأ من رسول الله؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وإني قد قدمت المدينة ولا عِلم لي بالقرآن، فطلبتُ مَن يُقرئني فأقرأني أحدهم سورة براءة.. فقال: (... أن الله بريء من المشركين ورسوله..)، فقلتُ إن يكن الله قد برئ من رسوله فأنا أبرأ منه..، فقال عمر: ليس هكذا يا رجل.. فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: (.. أن الله بريء من المشركين ورسولُه..) «بالرفع»، فقال: وأنا والله بريء ممن يبرأ الله ورسوله منهم.. فأمر عمر بألا يُقرِئ القرآن إلا عالمٌ باللغة.
وتلك حادثة تنمُّ عن حرص الخلفاء بمعاني اللغة التي جاءت في كتاب الله، وتأويلها بشكلها الصحيح.
وكما كان اهتمام العرب بالمعاني اللفظية واضحًا في سيرة الخلفاء وغيرهم، فإن اهتمامهم بعلوم اللغة لا يقل أهمية كالنحو على سبيل المثال لا الحصر، وقد رُوي على لسان أبي الأسود الدؤلي قوله: «دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوجدتُ في يده رقعة، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟، فقال: إني تأملت في كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة الأعاجم، فأردتُ أن أضع لهم شيئًا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى الورقة إليَّ، وفيها مكتوب: الكلام اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل: ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف: ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل»، وهي حادثة تؤكد هي الأخرى على السعي لحفظ العربية وسلامتها من اللحن والعجمة، وليس أدل على ذلك من وضع ألوف المصنفات التي تناولت اللغة العربية وقواعدها، وإظهار ما بها من خصائص عديدة، ومفاهيم تحوَّلت فيما بعد إلى نظريات فلسفية شهيرة.