بيننا من يغمض عينه عن استنزاف المياه الجوفية، ويصم أذنه، ويعطل عقله. يغيبون حقائق ومحاذير ندرة المياه، يرونها كغثاء السيل بسبب خطاب ديني جاهل يحملونه، يرسّخ لمفاهيم مغلوطة. ثلاثة عقود بذلتها لصالح هذه المياه، أكدت دورهم في تجهيل وتضليل النّاس بأهميتها، وخطورة استنزافها على زراعات عشوائية وغير اقتصادية. عندهم لا مشكلة. دليلهم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (القلم 30). يروجون لتفسيرات واستنتاجات خاطئة. الاتكالية منهجهم. وصلوا بنا حافة إعطاء الصكوك بزوال الأمراض وحل المشاكل لمجرد ترديد دعاء ينظمونه. والشفاء من الأسقام بترديد دعاء يقررونه. ثم يتجاهلون أدعيتهم هذه ويبادرون لزيارة المستشفيات لأول عارض مرضي يصيبهم. وصل ببعضهم الادعاء بأن مياه زمزم تكفي -دون نقص- جميع سكان الأرض البالغ عددهم أكثر من (7) مليارات نسمة.
حولوا إسلامنا لصناعة قوالب أدعية اتكالية للناس وقت الرغبة، وإلى أداة ضد العلم ومنطقه، وبصورة انتقائية. إسلامنا دين عقل لا يتعارض مع العلم. إسلامنا ثورة فكر ضد الجهل والتجهيل والتضليل. البعض كرس حياته لتجهيل الناس، وتكذيب العلم وحقائقه. ليس المطلوب أن يصبحوا الناس جميعهم علماء، لكن أن يتم تجييشهم ليصبحوا أعداء العلم، وأعداء أنفسهم، فهذا ما يجب تجنبه حتى بقوة النظام والقانون.
حديثي عن المياه الجوفية ليس تقولا على الله، لكنه يحمل رسالة ملخصها: (استعملوا الماء دون تبذير). الحقائق لا تتعارض. كل شيء مرده إلى الله سبحانه، منزل الغيث، لكن يتوقف على مدى سعينا وعملنا. هل أخذنا بأسباب تزيد من الغيث بأمر الله؟ نعمل على تصحر البيئة، وقطع أشجارها، ورعيها الجائر، وأيضا على إفساد مكوناتها الطبيعية، والإخلال بتوازنات سلامتها، ثم نطلب الغيث بالدعاء دون عمل لتنمية وحماية البيئة. لماذا يغيبون آيات تحذر من الفساد والإفساد البيئي؟ يرون حديثي عن جور الاستنزاف الجائر للمياه الجوفية تشاؤما يتنافى مع الإسلام الذي يرون.
لماذا يذهبون للمستشفيات، ويرجون لأبنائهم كليات الطب، ويبلعون الدواء، ويلتزمون بتوصيات العلم الطبية؟ لماذا في ظل هذه الآية: {إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء 80)؟ هنا تظهر تناقضاتهم. نعم هو الشافي، لكن بـ (العمل) والأخذ بالأسباب. لماذا لا يطبقون هذا مع الماء؟ نزول المطر بحاجة لتوفر شروط بيئية أرادها الله أن تكون، لكن أفعالنا تتفاقم ضد تحقيقها.
لماذا صلاة الاستسقاء؟ أليس الله بقادر أن ينزل المطر ويوفر الماء دونها؟ إنها مؤشر (العمل). مثال آخر: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} (مريم 25). أليس الله بقادر على إسقاطه دون جهد؟ إنه مؤشر (العمل). مريم عليها السلام كانت في وضع المخاض وآلامه، يأمرها الله بأن (تعمل) وتهز جذع النخلة. لم يأمرها بالدعاء وبالاتكال فقط. جذع النخلة ليس غصنا، لكنه بحاجة لجهد استثنائي وعمل بقوة استثنائية حتى في أحلك الظروف.
الأمة الجاهلة التي تعيش ندرة المياه، ولا تعي أهمية المياه الجوفية وتستنزفها بشكل جائر وعشوائي، سيكون مصيرها الفناء عطشا ولو بعد حين. العقول المنغلقة على الفهم الخاطئ لا تدرك فلسفة الآيات القرآنية وربطها ببعض، مرد ذلك حاجتها إلى إدراك واسع من التحليل المنطقي والعلمي لا يجيدون السباحة في ملكوته. نحن بحاجة لمنع خطاب ديني يروج الجهل والتضليل والتجهيل وحلول الأدعية دون (عمل) و(علم). أصبح لدينا فقهاء جهل يبثون معارف مغلوطة، نتوارثها، لا ترتقي بالحياة ولا تساهم في بنائها. دورهم الحث على التوكل، والزهد. تجدهم فقهاء جهل وتجهيل ويعيشون التناقض مع ما يدعون.
المياه الجوفية نعمة عظيمة. مياه تراكم حجمها في باطن الأرض عبر العصور، نستنزفها بشكل جائر وعشوائي في ظل امتلاكنا إمكانيات مادية وتقنية مكّنت من اختراق الأرض حتى طالتها. نهدر ما نملك من نعمة الماء المتوفر، ثم نمارس صلاة الاستسقاء دون (عمل) ثم ننتظر نزول المطر. أليس هذا جهلا بتعطيل وظيفة العقل، ورسالة الإسلام؟
twitter@DrAlghamdiMH