عبارة ترهيبية تقال دائما لأغلب من يطلبون المشورة في قرار التقاعد، ويزيد عليها بعض الأقران عبارات أخرى استفهامية نحو (ماذا ستفعل؟، أين ستذهب إن أنت تقاعدت؟)، بل ويقرر بعضهم ما سيكون من قدر الرجل حينما يقارنه بغيره مدللا على أن فلانا قد ندم أشد الندم حينما أقدم على هذه العثرة غير المباركة التي يجب ألا يقع فيها غيره، وكثير مما يقال على المستوى العائلي الصغير والأصدقاء وحتى الأسماء المستعارة الناصحة في وسائل التواصل الاجتماعي، لكن! هل الإقدام على خطوة التقاعد قرار مخيف فعلا؟ هل سيموت أحدنا حينما يقرر إضافة كلمة (متقاعد) بجوار اسمه في دائرة الأحوال المدنية؟ هل سيبتلع ذلك البعبع كل من يقرر الدخول إلى دائرته ليموت بعد عام أو أقل من دخولها؟ أم أن التقاعد بمسماه العام ليس إلا مرحلة من مراحل الحياة التي يمر بها كل موظف بعد إتمام شرط أو عدة شروط وظيفية لا تزيد شأنا عن انتقال الفرد منا من مرحلة الدراسة لمرحلة ممارسة الوظيفة؟ وهل مرحلة التقاعد الكلي تختلف عن مرحلة التقاعد المبكر أم أنها تتشابه في حيثياتها مع مرحلة الوظيفة بعد المرحلة الثانوية، والوظيفة بعد إتمام الدراسة الجامعية؟ كل هذه التساؤلات محل الابتلاء مطروحة على الساحة وعلى كل فرد منا أن يختار ما يتناسب ووضعه المعيشي ليقدم عليه دون الحاجة لمقارنة حياته بحياة الآخرين أو طرق معيشتهم.
قبل سنوات سمعنا بعبارة تحذيرية أطلقها بعض أبناء المجتمع محذرين فيها موظفي شركة خاصة من التقاعد بحجة أن تلك الشركة ستقوم بحقنهم بإبرة سامة تجعلهم يموتون بعد عام على الأكثر، ربما يكون أحدهم قد بنى ذلك على حالة وفاة حصلت بعد التقاعد فعممها على الجميع، الأمر الذي جعل كثيرا من موظفي تلك الشركة يتفانون في أعمالهم كي لا يتم النظر إليهم كعاجزين عن العمل ويكون القرار بإحالتهم للتقاعد بعد العجز الجزئي أو الكلي، بل وسعى كثير منهم لعلاج أي إصابة يتعرض لها على حسابه الخاص خوفا من أن تعلم الشركة بذلك فتتم محاسبته أو التخلي عنه، مثل هذه الرسائل السلبية أرغمت الكثير من الموظفين على إفناء السنين من أعمارهم غير مبالين بأي جداول اجتماعية أو إجازات سنوية فأصبحت الوظيفة كل حياة الموظف التي لا يرى في غيرها أي حياة، لذلك يسأل بعضهم ماذا ستفعل وأين ستذهب إن أنت تركت الوظيفة وتقاعدت؟ الأمر الذي ساهم فعلا في خلق عدد ملاحظ من الوفيات التي تحدث بعد التقاعد ليس بسبب الإبرة المميتة المزعومة وإنما بسبب الفراغ النفسي والعاطفي الذي تعرض له الموظف بعد تركه للشيء الوحيد الذي يتقن عمله وهو الوظيفة، تلك الوظيفة التي أبعدته عن جو الأسرة والمجتمع، بالإضافة لحرمانها إياه من ممارسة هواياته المتنوعة، ورياضة جسمه وعبادته ربما.
بالإضافة لما تقدم لا يزال هناك سؤال مهم طرحه، ويطرحه كثير ممن اقتربوا من سن التقاعد، هل أتقاعد مبكرا أم أكمل سن الستين عاما لأتقاعد؟ وإجابة هذا السؤال البديهية ستكون بأنك يجب أن تكمل عامك الستين لتحصل على راتبك الكلي بعد التقاعد النظامي، وهذا ما لا ينصح به خبراء الاقتصاد في العالم، إذ أن التقاعد المبكر يضمن لصاحبه - ولو بنسبة مقبولة- أن يعيش ما تبقى من حياته وهو بكامل صحته وعافيته، كما يمكنه في حال تقاعد مبكرا أن يمارس هواياته ونشاطاته الاجتماعية والاقتصادية أيضا، تلك النشاطات التي تحظرها الوظيفة أحيانا بسبب تعارض المصالح أو الرفض التام لممارستها أثناء بقاء الموظف على رأس العمل حسب قانون كل وظيفة، حرية تعيد الشيخ إلى صباه حيث تقل المسؤولية العملية وإن بقيت المسؤولية الاجتماعية، بل إني أزعم أن كثيرا ممن أحيلوا إلى التقاعد قد تخلصوا من كثير من الاكتئابات وضغوط العمل وأحسوا مع مرور الوقت بتحسن ملحوظ في صحتهم داخل وخارج المنزل، إضافة لتمتع أبنائهم بمميزات التقاعد التي يحصل عليها الآباء قبل أن يصلوا لسن تحرمهم من تلك المزايا، لذلك ينصح كثير من المتقاعدين زملاءهم بسرعة الإقدام على هذه الخطوة التي أحسوا بفائدتها واقعا، كما ينصح خبراء آخرون بذلك تحقيقا لدراسات متعددة تفيد بأن تجديد الدماء الوظيفية يطور من سير إنتاج الأعمال وخلق فرص عملية للأجيال اللاحقة التي عاش أبناؤها طفرة التقدم كمادة دراسية يتم تطبيقها اليوم على أرض الواقع التقني المتطور البعيد كل البعد عن المفك والإزميل والمطرقة، تلك الأدوات التي كانت مناسبة للاستخدام قبل ثلاثين عاما لكنها أصبحت غير مفيدة اليوم ولن تكون كذلك في الثلاثين عاما المقبلة.
لذلك تقاعد مبكرا لتعيش حياتك، أما أمر الممات فإنه بيد الله سبحانه، فهو جل وعلا مقدر الأقدار ورازق الأعمار وليس بيد أحد من خلقه تحديد ذلك إلا بمشيئته، تقاعد لتعش، فكر بها مليا واحرص على دراستها قبل أن تقدم عليها وذلك كي تعش في راحة وهناء وتشارك من حولك ثمرة جهد السنين وتفرح ويفرح بك كل من حولك وأولهم أسرتك.
@azizaljasim