وجدت نفسي أمام تساؤلات إستراتيجية متشعبة توحي وتقول، بداية خرجت مهاجرا من قريتي بمنطقة الباحة شابا برأس مالي: (الأمل والطموح والمرجلة)، وبعد غياب ربع قرن، وحصولي على إجازة الدكتوراة مباشرة، رجعت زائرا فلم أجدها وزراعتها. وجدت بقايا وأطلالا. صدمة جعلتني أزرع خمس شتلات من شجر الزيتون، بجانب شتلات زراعية أخرى، للحفاظ على ذاكرة المكان في نفسي. جعلتها في عهدة (جابر)، لم انتظر مردودا ماليا، الهدف استمرار الحفاظ على ملكية موروث الحجر والمدر، ومنعه من التهدم والتصحر والزوال.
رجعت لمقر عملي، وغبت مرة أخرى لأكثر من عقدين، ماتت خلالها معظم الأشجار، بسبب شح المياه، لكن شجر الزيتون ظل حيا في الأرض، كأنه يحرسها. وبعد تقاعدي رجعت أحمل نفسي إليه، وجدته ينتظرني مع حجرها ومدرها التراثي، وكمكافأة لصموده في وجه الجفاف اعتنيت به. فكان أن كافأني هو الآخر، وقدم ربع طن من ثمار الزيتون. اعتبرتها ثمارا منحوتة، لكنني احترت أمام ارتفاع تكاليف لتر زيتها، بلغ أكثر من (150) ريالا.
السؤال الأكبر: لماذا أزرع؟ فتذكرت مثل القرية القديم: (لو حسب الزراع ما زرع). ساد المثل في ظروف غابت. فمتطلبات الزمن تختلف. منها الإمكانيات، النظم الزراعية، القيم الاجتماعية الزراعية. أيضا مفهوم الاقتصاد بجانب الوضع العلمي. الشيء الذي لم يختلف هو حب وعشق الحجر والمدر كموروث، تحمله جينات أبناء منطقة الباحة، تحول إلى حنين يحملونه، فزاد هاجس خوفهم وقلقهم على تهدمها وضياعها، وفقدها في ظل هجرتهم وتغير مهنتهم الزراعية.
من متطلبات نجاح الحياة حساب الشيء بدقة. الخسائر ليست في المال وحده، ولكن في الوقت، والجهد، والصحة، والمستقبل. هناك أيضا متطلبات الزراعة ومجال تسويق إنتاجها. السؤال: لماذا الزراعة في ظل ظروف غير اقتصادية وتحديات تبدد المال والماء دون طائل؟ السبب ليس زراعيا. الهدف هو الحفاظ على بقاء الحجر والمدر كموروث تراثي، كل فرد يرى أنه مسئول عنه بالوراثة. اقتناء حجرها ومدرها والحفاظ عليه جزء من القيم الموروثة لأهل المنطقة، يرتقي بصاحبه اجتماعيا.
نحت الجبال مهنة أهل منطقة الباحة الأساسية عبر التاريخ. بها أسسوا حضارة الحجر والمدر. جعلوها حيازات زراعية منحوتة بكفاءة، تمثل أوعية في شكل مدرجات كنتورية معلقة على قمم وسفوح الجبال لصيد المطر والاستزراع، وظفوها أنظمة مائية وزراعية. حاليا أصبح أهلها في ورطة تحديات نظام إرث فتتها وجعلها مشكلة أمام تكاثرهم، في ظل ثبات مساحتها. حيازة الفرد تتناقص مع كل جيل جديد، وهذا يهدد بزوالها. فهل أصبحت مهمة الأجيال الحفاظ على ملكيتها في ظل تحدياتها؟ أصبحت الزراعة وبناء البيوت عليها وسائل لبقائها، بغض النظر عن مدى خسارة ما يتم صرفه عليها دون مردود. أصبحت حملا ثقيلا. تراث الحجر والمدر مسئولية وطنية تهم الأجيال، وليس مسئولية أفراد تخضع لظروف مصالحهم وإمكانياتهم المتغيرة.
هل الزراعة في منطقة الباحة اقتصادية؟ الزراعة الحديثة استثمار يخضع لدراسات الجدوى الاقتصادية، وتتعمق أهميتها مع تحديات الظروف البيئية وموارد المياه. هل هناك خطة زراعية لاستثمار الأراضي الجبلية البور في المنطقة؟ هل يلغى قرار الوزارة في سبعينيات القرن الماضي باعتبار منطقة الباحة منطقة غابات؟ علينا تحديد الاتجاه الإستراتيجي في ظل تحديات المياه. هل هي منطقة غابات، أم منطقة ريفية زراعية، أم منطقة سياحية، أم مزيج من كل هذا؟
الظروف القائمة تفرض أن تكون منطقة الباحة منطقة غابات. فهل زراعة شجر الزيتون من أنواع شجر الغابات التي يجب أن تسود؟ إجابتي: نعم. ولكن في ظل توزيع أراض بور زراعية جديدة واسعة المساحة ذات جدوى اقتصادية. أيضا الحفاظ على منحوتات المدرجات التراثية من حجر ومدر. وهنا أدعو -في ظل إهمالها- بنقل ملكيتها ومسئوليتها من الأفراد إلى وزارة الثقافة، المسئولة عن التراث ومساراته المختلفة، وفق نظام -مقبول اجتماعيا- يحافظ على دورها ورسالتها البيئية، والثقافية، والتراثية، والتاريخية.
twitter@DrAlghamdiMH