تم ابتعاثي إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتخصص كطبيب في مجال الطب النفسي للأطفال في أوائل التسعينات الماضية، (Yale university) وكانت تلك الفترة التي دامت عشرين سنة بما فيها التدريب ثم العمل كعضو هيئة تدريس في جامعة ييل، من أكثر الفترات في حياتي إثارة واكتسابا للخبرات العلمية، واكتساب تجارب مهمة في نواح أخرى، اجتماعية وسياسية من أوسع الأبواب. وقد تركت السنوات الأولى في نفسي انطباع الانبهار والإعجاب بحضارة تلك الدولة، فقد كانت السمة السائدة لذلك المجتمع في تلك الفترة التسامح وتقبل الآخرين على اختلاف أعراقهم وديانتهم، بعيدا عن العنصرية والتي وإن كانت موجودة، لم تكن تظهر على السطح إلا في النادر على الأقل من منظوري الشخصي. وكان لذلك أسباب منها كون تلك الثقافة من ركائز ذلك المجتمع، كما أن الاقتصاد الأمريكي كان ينعم بفترة ازدهار ولا عجب، فقد كان الاقتصاد الأمريكي وقتها يعادل ما يقارب نصف اقتصاد العالم. وكانت نسب البطالة منخفضة، كما كان الحصول على قرض بنكي عقاري أو تمويل لشراء سيارة أو غير ذلك من أسهل الإجراءات. كما كان هناك انطباع عام بأن المهاجرين يساهمون في بناء المجتمع الأمريكي اقتصاديا واجتماعيا ولم لا، فالمجتمع الأمريكي في مجمله يتكون من مهاجرين من جميع أنحاء العالم، وكانت تلك الدولة بوتقة انصهرت فيها مجموعات كثيرة من مختلف الأديان والأعراق.
وسبحان مغير الأحوال، فقد تغيرت تلك الصور بطريقة جذرية، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدأت تظهر ملامح الصعوبات الاقتصادية تدريجيا، وبدأت تلقي بظلالها على جميع نواحي الحياة في تلك البلاد، وتفاقمت تلك الصورة خاصة بعد أزمة الرهن العقاري في عام 2008.
وبدأنا نلاحظ ظهور إجراءات أمنية مبالغ فيها في المطارات، وكانت تستهدف بصفة رئيسية المسافرين ذوي السحنة العربية والسمراء دون غيرهم. وأذكر قبل أحداث سبتمبر حضوري للمطارات بربع ساعة فقط للسفر على الرحلات الداخلية وكان ذلك كافيا دون أي صعوبات. ولكن تغير كل ذلك وأصبح السفر يتطلب الحضور قبل الرحلة بساعتين أو أكثر للرحلات الداخلية ناهيك عن التفتيش الشخصي وخلع الحذاء وما إلى ذلك من الإجراءات الأمنية التي لم نعهدها من قبل، كما استرعى انتباهي ظهور تاريخ حياتي الشخصي على شاشة كومبيوتر رجال الأمن في المطارات حال تسليمهم بطاقتي الشخصية مع بطاقة صعود الطائرة، وكان ذلك يخدمني إلى درجة ما بحكم مهنتي ويسهل لي المرور. كما بدأت تظهر ملامح الاستقطاب السياسي والتطرف الديني في مجتمع عرف عنه الاتجاه العلماني في غالبيته، كما ظهرت بوادر لوم الأجانب والمهاجرين على الوضع الاقتصادي وارتفاع نسب الجريمة خاصة أولئك القادمين من دول غير أوروبية. وكانت تلك الفترة من أصعب الفترات للطلاب الذين كانوا يتعرضون لإجراءات أمنية ومضايقات غير مبررة لا لسبب سوى كونهم أجانب من جنسيات شرق أوسطية، حتى أن بعض المبتعثين عادوا قبل إنهاء دراستهم. ولا أنسى مشهد اللافتات التي كانت توضع على مداخل محطات البنزين معلنة «نحن لا نبيع البترول السعودي».
ولكم أن تتخيلوا كيف كان الطلاب والأجانب يحسون في تلك الفترة، ذلك الإحساس غير المريح بكون الشخص محاصرا ومستهدفا. وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد أعادت لي مشاهد الهجوم الإعلامي والتصريحات المتطرفة لقيادات الحزب الديموقراطي على قيادات المملكة الذاكرة بتلك الحقبة العسيرة من الزمن. فنرى السياسيين في تلك الدولة مدفوعين بأجندات حزبية تسبق انتخابات الكونجرس النصفية الشهر القادم، يقومون بتصريحات معادية للمملكة وقياداتها خوفا من خسارة مقاعد الأغلبية في مجلس النواب بفعل التضخم وارتفاع الأسعار. وكلنا نعلم أن المملكة رفضت طلب الإدارة الأمريكية بتأجيل خفض إنتاج بترول منظمة أوبك لكيلا ترتفع الأسعار. وكان قرار المملكة حازما وهدفه دعم الاستقرار والتوازن في أسواق النفط العالمية وتجنب الانخراط في السياسات، فكانت ردة فعلهم هي خلق عدو خارجي متمثلا في المملكة، وافتعال قضايا حقوق الإنسان بأساليب ملتوية متناسين تاريخهم المظلم والطويل في الجرائم ضد الإنسانية، وتذكرت هنا المثل الغربي القائل «من يسكن في بيت من زجاج لا يرمي الآخرين بالحجارة». أرجو أن تمر هذه الأزمة المختلقة على خير، حفظ الله شعبنا وقيادتنا ذخرا للأمتين العربية والإسلامية.
@almaiahmad2