ثمة أبعاد وتجليات رصينة ننهلها من مقولة الكاتب والطبيب الإسكتلندي (Arthur Conan Doyle) «لا يجب أن تقول كل ما تعرف.. ولكن يجب أن تعرف كل ما تقول»، وأيضاً في قول آخر له «اختيار الكلام أشـد من نحت السهام» وبمثل هذه المقولات وغيرها مما يتعلق بضبط منطوق ومضمون الحوار مع الآخر وتنقيح أسسه برويَّة ناضجة، والتي احتضنتها الكثير من بطون المؤلفات ونظريات أساتذة الفكر، إذ هي إضاءات لمضامين لطرق مُعبدة تأخذ بخطانا نحو جزء من المعرفة والوعي في إتقان عملية الحوار مع طرف آخر حين يستدعي الأمر، وتصويب ما يمكنه من رفع مستوى الوعي في الطرح ليسمو الحوار في كيفيته ومحتواه ونتائجه ذات الأثر في حيّز التنفيذ الفعلي.
ويفسر لنا الكاتب السعودي يوسف الحسن مفهوم الحوار، بقوله: لو كان كل من تحدث عن الحوار وأهميته وحتميته صادقاً ثم منفذاً له لكان حالنا مختلفاً، ولكان حال العالم اليوم أفضل.. هذا ما سطره الحسن في كتابه «طريق الحوار.. نظرات من أجل العبور»، والذي تناول فيه مفهوم الحوار بما يحمل من أوجه وألوان، متناولاً ماهية التبادل الكلامي بين طرفين في مجموعة من القوالب المختلفة، ويؤكّد الكاتب يوسف الحسن على أنّ عملية الحوار تخرج عن مضامينها إذا تراجع مستوى الاستماع من أحد الطرفين، فلا يتحقق الحوار لمجرد جلوس طرفين والاستماع إلى بعضهما البعض، فقد يتحدث أحدهما كثيراً، لكنه لا يقول شيئاً، وقد يكون صمت أحدهما أبلغ من حديث الآخر.
فالحوار المنتج هو ما ينقل الطرفين من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، فطالما انتهى الحوار إلى البقاء في نفس النقطة فهو لم يتعدَّ أن يكون إلا (حواراً عدميّا) وما هو إلا مجرد مناورة يتبارى كل طرف في إبراز تفوقه اللفظي على الآخر لمجرد المنازعة والمغالبة وإثبات ذاته كما هو يراها في صورة متفردة عن الآخرين، لكنه في واقع الأمر ليس كذلك، أمَّا إذا تفنن أحد الطرفين بالمباهاة اللفظية في واقع تلك المناقشة، وتبارى بكل مقدراته الذهنية واللفظية لإثبات ذاته بقالب سطحي ليس إلا؛ فإنه انغماس في كومة من فوضى الحديث المتصدع، فالحوار المتصدع يفتقر لظهور واقع جديد، والذي لا يمكن إيجاده حين نهدر الوقت بالحوارات الميِّتة، فهي هدر للطاقة ومضيعة للوقت، وحين قال الكاتب ورجل الأعمال الأمريكي (Jim Rohn)، «إنَّك لا تتلقى راتبك مقابل الوقت، بل تتلقاه مقابل القيمة التي تضيفها لهذا الوقت»، فهذه إشارة تعني أنك إن لم تربح النقاش؛ فاحذر أن تخسر الوقت الثمين الذي تملكه، واجعل حوارك مقاومة مثمرة مقابل مسار طرف آخر، والقيمة التي يحتضنها منظورك، وأنك تحرث مساراً بهذا الاختلاف الذي يدعو لطريق أفضل وخيار برؤية أكثر نضجاً، وليس مشاكسة لمجرد الهدم.
إنَّ الهدف الحقيقي من الحوار والجدال مع الآخرين ليس تحقيق النصر عليهم، بل ما يدفعنا إلى التقدم وتعزيز المعرفة ودرء الإبهام.
@f_lialy