لا يختلف كثر بأن "الولد الذهبي" قاد الأرجنتين لوحده إلى احراز لقبها الثاني في كأس العالم، مسطراً ملاحم فنية غير مسبوقة تخلّلها هدف "إلهي" بيده.
في غضون خمس دقائق مطلع الشوط الثاني من ربع النهائي ضد إنكلترا، رسم الفنان دييغو أرماندو مارادونا لوحتين متناقضتين دخلتا تاريخ المستديرة، تُعبِّر الأولى عن شخصية جدلية غير منضبطة والثانية عن موهبة فذّة.
في الثاني والعشرين من حزيران/يونيو 1986 وأمام 115 ألف متفرّج على استاد استيكا في مكسيكو، أقيمت المباراة في ظل حساسية سياسية بين البلدين، بعد أربع سنوات من حرب الفوكلاند نتيجة الصراع على إقليمين جنوب المحيط الأطلسي، وتذكير الصحف الإنكليزية بـ"شراء" الأرجنتين مباراتها مع البيرو (6-0) في مونديال 1978، عندما أحرزت لقبها الأول على أرضها في ظل نظام حكم عسكري.
كان مارادونا العقل المدبّر، صانع الألعاب والهدّاف، فخلق متاعب كبيرة للانكليز الذين جرّبوا كل الحلول لايقافه، بينها التدخلات الخشنة من دون نتيجة، فيما كان لرباطة جأشه وهدوء اعصابه مزوداً بأقراط الأذن، دور كبير في متابعة تألقه واستعراض عضلاته فنياً.
- يد الله -
افتتح التسجيل بعد كسره مصيدة التسلل، منتبهاً لخروج الحارس بيتر شيلتون، فسبقه مرتقياً ولكز الكرة بيده اليسرى داخل الشباك. احتجّ الانكليز بشدّة على الهدف، لكن الحكم التونسي علي بن ناصر لم يتراجع عن قراره مؤكداّ شرعيته.
قال مارادونا في المؤتمر الصحافي "سجّلت قليلاً برأسي وقليلاً بيد الله"، مضيفاً "لست نادماً ولن أندم على التسجيل بيدي. اعتذر ألف مرّة من الانكليز. لكن في الواقع سأكرّر هذه الحركة ألف مرّة ومرّة".
تابع "كان +تشيتشو+ (سيرخيو) باتيستا اول القادمين نحوي.. سألني +هل استخدمت يدك؟+ قلت له +اخرس وواصل الاحتفال!+ كنا لا نزال خائفين من الغاء الهدف".
لم تكن إنكلترا تكاد تهضم الهدف الأول حتى تلقت صدمة ثانية. 11 لمسة و11 ثانية و68 متراً تخلّلها تصفية مدافعي إنكلترا واحداً تلو الآخر. راوغ مارادونا أولا بيتر بيردزلي وبيتر ريد، تجاوز خط الملعب منطلقاً كالسهم، فابتلع تيري بوتشر وتيري فنويك، ثم راوغ الحارس شيلتون بتمويه جسدي مسجلاً في الشباك الخالية. اختير هذا الهدف الأجمل في تاريخ كأس العالم.
- "أردت التصفيق له" -
روى زميله المهاجم خورخي فالدانو "عشت هذا الهدف كأنه مصوّر بكاميرا متحرّكة. على غرار أي مهاجم، واكبت مارادونا وتمركزت على القائم البعيد لأمنحه حلاً إضافياً. في غرف الملابس، قال لي انه رمقني بنظرة من أجل التمرير لي... هذا يؤكد اننا كنا بحضرة عبقري. لو مرّر لي، لكان هدفاً يسهل تسجيله، لكن لم نكن لنشاهد أجمل هدف في تاريخ كاس العالم".
أما الإنكليزي غاري لينيكر هداف البطولة (6)، فقال "اعتقد ان الحكم المساعد شاهد لمسة اليد لكنه تغاضى عنها"، وعن الهدف الثاني "كان جميلاً لدرجة أردت التصفيق له".
- زلزال -
اعتذرت كولومبيا عام 1983 عن استضافة نسخة 86 لمشكلات اقتصادية، فنابت عنها المكسيك رغم أزمة اقتصادية حادّة، لتصبح بالتالي أوّل دولة تحتضن النهائيات مرتين بعد 1970.
وكما حصل في تشيلي قبيل عامين من مونديال 1962، ضرب المكسيك زلزال عنيف في 19 أيلول/سبتمبر 1985، قبل ثمانية اشهر من المونديال، أدّى الى مقتل 20 الف شخص وتشريد 150 ألف آخرين.
أصرّ المكسيكيون على الاستضافة، مؤكدين عدم اصابة البنى التحتية، فأقيمت النهائيات وسط درجة حرارة مرتفعة ظهراً، تلبية لضرورات النقل التلفزيوني، على ارتفاع كبير عن سطح البحر وصل إلى 2650 متراً في تولوكا تسبّب بصعوبة في التنفس.
قال المكسيكي أوغو سانشيس هداف الدوري الاسباني مرتين تواليا مع ريال مدريد "لم يؤثر علينا الزلزال مباشرة، لكن هدفنا إلى إسعاد الشعب الذي يعاني".
- طردٌ بعد 52 ثانية -
مرّة جديدة تغيّر نظام البطولة، قضى بخروج المغلوب من مباراة واحدة بدءاً من الدور الثاني لزيادة الاثارة، على أن يتأهل إلى دور الـ16 بطل ووصيف كل مجموعة بالاضافة إلى أفضل أربعة منتخبات تحتل المركز الثالث في دور المجموعات.
شارك المغرب مرّة ثانية، فصدم إنكلترا وبولندا والبرتغال متصدراً مجموعته، قبل سقوطه بهدف قاتل أمام ألمانيا الغربية، حيث أصبح أول منتخب إفريقي وعربي يبلغ الدور الثاني.
شهدت البطولة فورة دنماركية مع بريبين الكيير لارسن ومايكل لاودروب، انتهت برباعية الإسباني "الصقر" إميليو بوتراغينيو في الدور الثاني (1-5).
خسرت المجر بسداسية نظيفة أمام الاتحاد السوفياتي في الدور الأول، فأجبر مدرّب الأولى جورجي ميزي لاعبيه على مشاهدة المباراة ثلاث مرات في اليوم التالي.
طُرد الأوروغوياني خوسيه باتيستا بعد 52 ثانية من بداية مواجهة اسكتلندا، فيما حُرم العراق بمشاركته الأولى من هدف مؤكد لأحمد راضي أمام الباراغواي، عندما أطلق الحكم صافرة نهاية الشوط الأول ورأسيته في طريقها إلى الشباك.
- 45 درجة مئوية -
دخلت البرازيل وفرنسا البطولة مرشحتين لاحراز اللقب، وبقي لقاؤهما في ربع النهائي راسخاً في التاريخ، بحرارة بلغت 45 درجة مئوية في غوادالاخارا.
أهدر زيكو ركلة جزاء للبرازيل (1-1)، فتحوّلا إلى ركلات ترجيح ابتسمت لرفاق بلاتيني الذي أطاح بدوره ركلة فوق العارضة (4-3).
نتج عن هذه المباراة سكتات قلبية، انتحار وجرائم قتل في ريو دي جانيرو. استقبلت المستشفيات نحو ألفي حالة، ثلثها ارتفاع في الضغط، ثلث للمشاجرات وثلث آخر لغيبوبة بسبب الكحول.
- المجنون كان الأذكى -
شهدت هذه البطولة تجمّع العديد من النجوم، فبالاضافة إلى مارادونا، كان هناك بلاتيني، البرازيليان زيكو وسقراطيس، الألمانيان كارل-هاينتس رومينيغه ولوتار ماتيوس، الأوروغوياني إنتسو فرانتشيسكولي، بوتراغينيو، لينيكر...
لكن بخمسة أهداف، خمس تمريرات حاسمة من أصل 14 هدفاً للأرجنتين، و53 مراوغة، فرض مارادونا نفسه نجماً للبطولة من دون منازع.
ودّعت فرنسا من نصف النهائي مرّة جديدة أمام ألمانيا الغربية (0-2)، فيما تلاعب مارادونا مجدداً بخصومه مطيحاً بلجيكا بالنتيجة عينها.
بدت الأرجنتين مرشحة قوية للقب. شرح حارسها نيري بومبيدو "وصلنا مبكراً الى المكسيك واستعددنا افضل من الآخرين للتأقلم مع الطقس والارتفاع عن سطح البحر".
وعن مدربه كارلوس بيلاردو الذي كان تحت نير الانتفاد في التصفيات وطالبت الجماهير باقالته، أضاف بومبيدو "كان أساسياً في فوزنا، ومتقدّماً برؤيته التكتيكية. الجميع كان يصفه بالمجنون، لكنه كان الأذكى بيننا".
- بوروتشاغا يحلم -
احتشد 115 ألف متفرّج في نهائي ملعب أستيكا حيث تقدّمت الأرجنتين عن جدارة بهدفي خوسيه لويس براون وفالدانو، لكن الماكينات الألمانية عادلت في آخر ربع ساعة عبر رومينيغه ورودي فولر من ركنيتين.
ومن أفضل من مارادونا لتوقيع المشهد الأخير؟ لعب كرة بينية قاتلة لخورخي بوروتشاغا ليسجل هدف الفوز قبل سبع دقائق من نهاية الوقت (3-2).
قال بوروتشاغا "بعد تسجيلي، ركضت نحو خط الملعب وركعت محتفلاً. أوّل المهنئين لي كان سيرخيو باتيستا، كان مرهقاً. ركع بجانبي. بلحيته الكثة، تهيأ لي انه يسوع المسيح جاء ليبشرني بأننا اصبحنا أبطال العالم".