يعنى البشر جميعا على الرغم من تباين ثقافاتهم، واختلاف مشاربهم بهاجس مشترك، وهدف واحد تنتهي عنده خطوات مساعيهم، وآمال طموحاتهم ليتحول «جمع المال» من وسيلة لعيش حياة آمنة، إلى غاية تقض مضاجع الكثيرين، وتقلب حياتهم رأسا على عقب.
ومن هذه الإشكالية التي تختلط على أذهان الكثيرين، تغدو من الوهلة الأولى عملية التفريق بين الحرص، والبخل عملية شائكة تحتاج للكثير من التفكير، والتمحيص، والتبحر، ولكننا سرعان ما يتبين لنا أن الحرص الشديد هو الابن البار للبخل، وهو امتداد له، وانعكاس لصورته، ويكادان يتماثلان بسلوكيات حامليهما حتى يستحيل التفريق بينهما، ولعل مصطلح «حراس المال» الذي يحمل كناية مبطنة عن كل من أصيب بهوس جمع المال، وحراسته هو المصطلح الأمثل، والأقرب لعين الحقيقة.
فحراس المال يعنون بتكديس أرباحهم، والتعلق بها، وعدم التفريط بأي منها خشية الوقوع في الحاجة، والعوز فنشاهدهم يعيشون حياة القلة والفقر لتذهب أموالهم لغيرهم، وليموت من جمعها فقيرا، ويعيش من ورثها من أبنائهم معيشة الأثرياء متمتعين، فيما لم تتعب به أيديهم، ولم تشب لأجله رؤوسهم.
وانطلاقا من قوله تعالى في كتابه الكريم: (المال، والبنون زينة الحياة الدنيا) نلاحظ جليا أن المال هو ركن أساسي في عيش حياة ماتعة ضمن حدود الدين، وخطوط التربية السوية ولأن البخل، ورهاب الإنفاق حالة تصيب بعض ضعاف النفوس من أبناء مجتمعاتنا، وجب تقييم هذه الحالة على أنه مرض يتملك نفس صاحبه، ويثنيه عن عيش حياته بشكلها الدراماتيكي ليتحول من القدرة على الإنفاق بالشكل الطبيعي لإجهاد النفس، والمقربين، وتعذيبها بألوان الشح، والتقصير المادي في شتى المجالات، لنبصر هؤلاء يتزاحمون أمام العيادات الحكومية لعلاج أنفسهم بالمجان رغم قدراتهم المادية، وثرواتهم المكدسة ولنراهم يتمتعون في تجويع أنفسهم، وعائلاتهم يرفضون الضيف ويمقتون الإنفاق يستغلون المقربين، ويقصرون في واجباتهم أيما تقصير !! يبعدون أصابعهم عن لمس أموالهم، مكتفين بالاستمتاع بمشاهدة بريقها، وتمنان الأعين بتعداد رفوفها.
وعلى الجانب الآخر، وفي حال اضطرارهم مكرهين لدفع أي من أموالهم، ومقتنياتهم في سبيل أمر ما، نفاجأ بتألمهم، وتوعكهم أياما عدة إلى أن تنجلي ذكرى حدث الإنفاق المشؤوم من أذهانهم، فتفارقهم الكآبة بعد أن استجمعوا قواهم، وعاهدوا أنفسهم على الإقلاع عن الإنفاق ثانية مهما بلغت الحاجة أشدها، ومهما كلفهم الأمر.
وبالعودة لمفهوم البخل كمرض اجتماعي تم تشخيصه، ودراسة أعراضه، ونتائجه نكتشف أن لذاك المصطلح الضار جذورا ضاربة في تربة المجتمع، تضعف أواصره وتهدم مقوماته تلك الجذور التي تظهر أغصانها على شكل آثار مظلمة تتمثل في حرمان الشخص البخيل من الثواب الذي ينتج عن الإنفاق في سبيل الله عز، وجل، وبالتالي إماطة اللثام عن ضعف الإيمان بعطائه تعالى، وسوء الظن برزقه الوفير، وبابه الواسع الكبير فتغدو كراهية المحيطين، والمقربين نتيجة حتمية لا مناص من حدوثها حينذاك، وإن لم تتجاوز عتبة الكراهية إلى تمني الموت، والزوال ليتمكنوا من الاستمتاع بما حرموا منه أثناء حياته من متع، وملذات، لا سيما أنه غالى في حرمان ذاته، ومن حوله من كل ما من شأنه أن يجعل الحياة ممتعة من مأكل، ومشرب، وملبس، سادا على نفسه أبواب الرزق التي، وإن فتحت عليه بفضل الله يوما ستغلق لا محالة بما اقترفته يداه، ولا عجب في ذلك، فقد قال المثل (يداه أوكتا، وفوه نفخ).
حقيقة لقد ذم الله تعالى البخل، وسخط على مقاربيه، وتوعد أصحابه ببئس الجزاء، وشديد العقاب، أحياء أمواتا وقد قال عز، وجل في كتابه الكريم: «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير» [آل عمران: 180].
@al_sagre