البعض خصص حياته في دراسة ظاهرة انهيار الأمم والحضارات، ولهم إجابات علمية، لكن هذا لا يمنع تقديم إجابتي من منطلق يخالف قول العرب: «الفاضي يعمل قاضي». الإجابة نتاج أشياء منها التأمل والتفكير والتحليل. الحضارة محل تنافس وتبادل بين الأمم. فهل وصلت حضارة الغرب مرحلة غثاء السيل الحضاري؟ أترك الإجابة للزمن، كما تقول أم كلثوم. لكن تعريفي للحضارة يعني أن تعيش الأمم يومها أفضل من أمسها. كنتيجة سأبحر بكم عبر مسارات ثقافتي الملونة. كل ما أملكه من أدوات في متاهات الإجابة هو دفة (الرأي). تحركها أيضا ملامح الدروس والعبر، والتي أعتبرها موارد مهمة لنجاح مسيرة حياة الفرد. لكنها لا تفيد السائر في دروب الردى والتراجع والسقوط، خاصة إذا وصل مرحلة لا يرى أحدا غيره في الساحة، يردد لنفسه: ألعب يا النشمي.
ليس المطلوب أن يصبح الجميع علماء ليحددوا الإجابات. كل شيء يجري حول الفرد من أحداث سيقود إلى الإجابة عن أي موضوع (يعشعش) في ردهات العقل. يتوقف ذلك على حجم الاستيعاب، وعلى قوة امتلاك سلاح المقارنة، حيث يشكل قوة بيد الفرد للحكم على ما جرى ويجري. أيضا هناك شريعة المؤشرات التي يمكن رصدها من الجميع وبكفاءة. في هذا الشأن نعيش كبشر في مجموعات كضرورة في سلم أولويات الحياة، لضمان درجة الأمن في سلم البقاء. يتحقق هذا بوجود جماعة قوية تتدرج في ثقلها حتى تصبح أمة تمثل حضارة. هنا محور تعاظم معجزة العقل لصيد مؤشرات تقدم إجابات عن أسئلة الإنسان المرعبة المتعلقة بالحياة كحضارة.
هناك دوما (دودة) خفية تنخر في الداخل، لها مؤشرات تدل على وجودها، تبدأ كالنار بالشرارة، لا تعطى أهمية وثقلا. القشرة الخارجية لا توضح خطورتها التي تستحق. وفجأة تنهار الأخشاب المنخورة في وقت لا مقدرة على تجنب الخسارة. هذا يذكرني بالأمير عبد الله الأحمر، آخر ملوك الفردوس الضائع (الأندلس) مع موقف والدته وهي تخاطبه: (ابكي كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال). رغم أنها تعرف أن المسكين لن يستطيع فعل شيء أمام نخر خشب مملكته التي أصابها الوهن عبر السنين، وحتى قبل أن تؤول إليه الأمور، وحتى قبل أن يولد أيضا. السؤال: لماذا لم تقل هذه الأم شيئا في صغره؟ هل يعني هذا أن الأمهات أحد أسباب سقوط الحضارات؟
انهيار الحضارات يعني انهيارا في أخلاقيات ومبادئ ونزاهة مسؤوليها في خدمة شعوبهم في المقام الأول. أطلال وبقايا الحضارات توحي لنا بقصص الظلم والبطش والاستعباد والتعالي وغياب العدالة. وهذا ما نراه في الحضارة الغربية القائمة. هناك مؤشر آخر وهو تضاد الأهداف وتضارب المصالح. كمثال.. تظاهر ملايين البشر في عواصم دولها ضد شن الحرب على العراق، لكن تجاهل شلة مجرميها المترفين صوت شعوبهم وبصلافة وغطرسة. أمعنوا في ازدواجية المعايير، يرددون: أنا ربكم الأعلى، حلال علينا وحرام عليكم. جعلوا من أنفسهم مفترسات بشرية، القوي يأكل الضعيف. يحللون لأنفسهم ما يحرمونه على الآخرين. هناك أيضا أدوات ووسائل الاستغلال والبطش والقهر، والفقر، والتضليل.. إذا سادت داخل نسيج الحضارة فهي أشبه بدودة تنخر الجسم القوي بشكل خفي. هذا يحصل بين أفراد العائلة الواحدة والمجتمع الواحد، ويكبر حتى يصل إلى مستوى الشعوب والحضارات. بطشوا بالعراق شعبا وتاريخا وتطلعات. سلموه لأمة أخرى تحمل عداء تاريخيا مستداما. ثم أوصلوا العالم أخيرا إلى مهزلة حرب (أوكرانيا) وفرض طقوس الضرر حتى على شعوبهم.
كلما أمعنت النظر -فكرا وتفكيرا- تذكرت قول الله: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} الأنعام، 123. وأيضا قوله سبحانه: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} الإسراء، 16.
عندما يتحول المترفون في الحضارات إلى مجرمين فإن الشعوب نفسها تنفض عنها حضارتها.
twitter@DrAlghamdiMH