في كل صباح تنهض ياسمين من فراشها، تقف بُرهة من الوقت على شباك غرفتها بانتظار نور الشَّمس يطفئُ عتمة ليلها الطويل.
تَلُوحُ لها على مفارق دروب العتمة وجه الصباح المشرق، الرحيل نحو فضاء بعيد، أحلام الطفولة العالقة في الذاكرة تلك التي تلتحفها كلما ارتجف جسدها النحيل من برد الشتاء القارس.
تتسوَّل من عبق الذكريات حفنة من الحُب، علَّها تنتشلها من وحل واقعها المليء بالانكسارات والهزائم، روحها المنطفئة تُسابق الليالي وعبور الأيام تبحث عن ملامح قدرها المجهول، أو ربما حلم عابر يحوي بين طياته نسمة من الفرح.
ذلك الضوء الآتي من خلف تلك الأحلام الملونة يمنحها سرورًا طالما كانت تنتظره بشغف مع كل إشراقة صباح.
تُكابر على ظلام الليل، توهم نفسها بأن تلك الشمس الجميلة ستبقى دائمًا رفيقتها المضيئة تُحرق بلهيبها أحزانها المتراكمة بين أهداب عينيها المليئتين بالأسى.
استغرقت في حلم اليقظة زمنًا طويلًا تبحث عن لحظات من الهدوء بعيدًا عن ضجيج هذا العالم المزدحم بالأفكار والهواجس، قلبها يهيم للمكان الذي ستتحقق فيه أحلامها.
مع كل يوم يمضي يزداد يقينها بأن خلف ذلك الغروب نورًا قادمًا يبدّد عتمة نحتت ملامحها على وجهها الحزين.
الشمس توارت خلف الأفق تُلوح للوداع معلنة الغياب غير آبهة بأحلام الياسمين القابعة منذ زمن في زنزانة الظلام.
كانت ياسمين تشعر مع كل لحظة غروب بأنها تودع جزءًا من حياتها لا يعود وسنوات عابرة من الانتظار الطويل، امتدت لمسافات مرهقة، أحلامها تحلّق في السماء، تتوق شغفًا للحياة وتطمعُ في ضياء يخبئه لها القدر.
لم تُدرك أن أيام عُمرها رحلت حتى وقفت ذات يوم أمام مرآتها تتأمل تلك التجاعيد في وجهها، وهذه الخصلات البيضاء في شعرها وملامح بؤس ما زالت تحتلُ قلبها.
وقوفها أمام تلك المرآة المكسورة كان يؤجج نار الانتظار المستعرة في صدرها.
تلك الشمس كانت أيقونة السعادة والأمل لروح ياسمين، تستيقظ مع صباحاتها البيضاء كل أمنياتها الصغيرة، وتستمد من غروبها الشوق والحنين.
في زمن عصيب، هبَّت رياح الحنين، أصواتها مُفزعة على غير عادتها تدبُّ الرعب في القلوب، الأمر المثير للدهشة أن ذاك الشباك المتهالك بقي صامدًا في وجه الرياح العاتية، رغم ما يكسوه من الثقوب، تيقَّنت حينها ياسمين أن هذه الأماني المزدحمة في صدرها لم تكن غير بضعـة أحلام وحكايات جميلة، أحيت في روحها كل الذكريات المؤلمة، تلك التي شاخت وتناثرت على رصيف الذكريات، ولم يتبقَ لها غير مزيدٍ من الحسرة على أيام رحلت، ولن تعود، وبقايا من هذا الشباك المشؤوم الذي تعرَّت بيننا ثنايا ثقوبه أحلامها الوردية.
لحظة معانقة خيوط الشروق كانت دائمًا تنتشلها من وحي واقعها الأليم، لكن الأمر هذه المرة مختلف تمامًا، انفرط عقد خيوط الأمل، وتساقطت أمنياتها واحدة تلو الأخرى، بهتت حروفها، وتاهت سطورها مع ذلك الشروق الحزين، الذي طالما كان ينقلها لعالم آخر، يبدو أكثر رفاهية.
أدركت ياسمين خيبتها الكبرى من وراء وقفها الطويل أمام ذاك الشباك، وهذا الشروق الذي كان جزءًا من حكاية تائهة استعصت على النسيان.
ابتسمت بحرقة وشريط ذكرياتها يمر أمامها دون أيّ ألوان وملامح، لم يعُد سوى ضجيج تلك الريح، يرن في أذنيها، وصدى صوتها يوقظها من سُبات أحلامها الطويل.. (أيتها الياسمين.. انفضي من قلبك غبار الأمس، فالحياة عابرة والوجوه عابسة وأشعة الشمس ما زالت باهتة).
@Anoo3344