لا يمكن مقارنة المعاناة التي عاشها جيل المبدعين في السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات، بالأجيال اللاحقة عليهم.
ثمة مسافة فاصلة في معنى المعاناة بين هؤلاء وأولئك يستحيل معها المقارنة، إذا ما أردنا أن نرصد تفاصيل حياة هؤلاء وأولئك، تلك التفاصيل التي تدل وتشير إلى عمق الأزمات الوجودية التي كادت تطيح بأحلام الكثير من ذلك الجيل.
تطيح بتجاربهم الإبداعية التي تتلمس طريقها بصعوبة لإثبات ذواتها، بل في واقع الأمر أطاحت بالكثير منها، لأن تلك الأزمات لم تكن في مجملها سوى غياب البيئة الحاضنة، التي تهيئ الأسباب والحوافز لصناعة المبدعين.
وتحت هذا الغياب تفرعت منها عوامل كثيرة، جلها ارتبط عند غالبية المجتمع بالتصور الذي يرى الإبداع والمبدعين مجرد هامش، لا يشكل قيمة كبيرة من بين القيم الأخرى كالثقافة الدينية الموروثة التي تتصل بالهوية الثقافية والاجتماعية والتاريخية للمجتمع نفسه.
يضاف إلى ذلك.. أولا - التشدد في تطبيق مظاهر التدين التي حكمت الناس، وأدخلتهم في عداء مستحكم مع كل صاحب فن وإبداع وتميز.
ثانيا - منسوب انتشار العلم والمعرفة والتعليم بين الناس لم يكن مرتفعا، ثم إن التطور التقني لم يصل إلى الحد الذي ينفتح فيه الناس على بعضهم البعض متجاوزين فيه حدود الجغرافيا وتضاريسها الوعرة.
كل هذه المعوقات التي ألمحنا للقليل منها، تجاوزها الجيل الحالي مقارنة كما قلنا بالأجيال السابقة.
من هنا حين نستذكر حياة المبدعين الذين عاشوا تلك الفترة، ومدى الصعوبات التي واجهوها، لأجل ترسيخ وجودهم الفني والإبداعي، يصاب المرء بالدهشة من الإصرار والعزيمة والطموح التي تمتلكها نفوسهم، لا سيما وأنهم قاوموا التهميش مرتين: مرة تهميش عموم المجتمع لهم، ومرة تهميش الإعلام لهم وعدم تسليط الضوء على تجاربهم أو حتى تكريمهم على مستوى الدولة والمجتمع.
وحتى لا أظل في الإطار العمومي، سأورد مثالا على حالة إبداعية متميزة شهدها المجتمع الأحسائي منذ السبعينات وما تلاها من عقود.
لقد كان الثلاثي: الكاتب المسرحي والملحن عبدالرحمن الحمد، والشاعر جواد الشيخ والمطرب محروس الهاجري يشكلون حالة إبداعية فريدة من نوعها، كون ارتباطهم بالفن والإبداع وميولهم لها، لم تكن سببا كافيا في قربهم من بعض، بل حكمت حياتهم الصداقة أولا وأخيرا، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهذا يعني فيما يعنيه، أن الصداقة كانت عندهم المحفز الأكبر على الإبداع، وأنها كانت بمثابة المحرك الداخلي في دفعهم لمواصلة طريقهم في التجربة الإبداعية، فالاحتماء بالصداقة، خصوصا في تلك الفترة، هي مصدات قوية ومتينة ضد كل مثبطات ومحبطات يواجهها أي مبدع، لذلك فخلال مسيرة تجاوزت أربعة عقود لم يفتأ هذا الثلاثي في معانقة الموسيقى والغناء والكلمة وكأنهم يعانقون الحياة بكامل قوتهم، حتى لا يغيب جزء منها في حضورهم.
وقد عانوا كثيرا في إنجاز ما أنجزوه، يكفي حين تستمع لهم عن مدى الصعوبات المالية والإعلامية التي واجهوها في محاولة تسجيل أغنية (غدار أعرفك يا بحر) في أستديوهات القاهرة في مطلع الثمانينات، والتي لاحقا حصدت الكثير من الشهرة، ودخلت كل بيت خليجي، واستقرت في وجدانهم.
هذا الثلاثي النموذجي فجع هذا الأسبوع بفقد واحد من أضلاعه، ألا وهو الشاعر جواد الشيخ.
هذا السبعيني الذي يحمل في داخله روح طفل لا يكبر أبدا، ساهم مع أصدقائه مساهمة فاعلة في الحراك الثقافي الذي كانت تقام أنشطته تحت مظلة جمعية الثقافة والفنون بالأحساء، وعلى خشبة مسرحها شهد العديد من الفعاليات التي كانوا هم طرفا فيها.
لقد عرفت جواد الشيخ (أبا فارس) عن قرب، واكتشفت فيه تلك الشخصية المرحة التي لا تحاول أن تضع بينك وبينها حواجز فارق السن أو حتى المعرفة البسيطة.
مرحه ظاهر في خفة الكلمة التي يكتبها، وفي أسلوبه في النطق والقول، وفي إقباله على الحياة، فالخفة في الكلمة والحياة هي ما يميز شخصية جواد الشيخ، وهذه سمة نادرة عند المبدعين، لم أجدها سوى عند ذلك الجيل الذي تعلمنا منه ومازلنا: كيف نقبل على الحياة دون عقد ودون تخل عن مرح الحياة ذاتها.
@MohammedAlHerz3