albakry1814@
واتتني فكرة المقال بعد مغادرتي لجلسة ثقافية، كنا نستمع فيها إلى أديب ومثقف كان يلفت أنظارنا إلى شاعر مبدع لم يحظ بالشهرة رغم جزالة شعره وقوة معانيه، وما أن بدأ الضيف بإنشاد قصيدة لهذا الشاعر حتى سارع أحد الحضور بإخراج جهازه الجوال والبحث عن هذه القصيدة، ثم شرع بمزاحمة الضيف بالإنشاد ومشاكسته في الحضور وكأن لسان حاله يقول وأنا أيضاً أستطيع أن أنشد القصيدة مثلك!!
هذه الصورة لم تكن موجودة في الماضي، ولكنها أضحت تتكرر كثيراً في الوقت الحالي بسبب النقلة النوعية التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، ولعل مقولة كنت قد سمعتها من أحد الزملاء تفسر هذه الحادثة، تقول هذه العبارة إن هناك اختراعان قد أضرا بالبشرية في العصر الحديث، سلاح المسدس ووسائل التواصل الاجتماعي، الأول قد ساوى بين الشجاع والجبان، والآخر قد ساوى بين المثقف والجاهل!!.
الإشكالية ليست هنا فحسب، فوسائل التواصل الاجتماعي قد بدأت تتحول إلى مصدر رئيسي للمعرفة، فالتقدم الهائل والمتسارع في مجال الاتصالات والتقنية قد منح الأولوية لهذه الفئة، ففي ظل التغيرات النوعية التي نشهدها من خلال التحولات الرقمية بتنا نقسم الإعلام إلى نوعين: التقليدي وما يشمله من الإعلام الرسمي للتلفاز والصحافة الورقية، والإعلام الإلكتروني أو الرقمي وهو الإعلام المرتبط بخاصية الإنترنت وشبكتها التي تصل الفرد بالعالم، وإشكالية هذا الإعلام أنه مفتوح بحيث يمكن لأي أحد أن يفتح حساباً في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي ثم يقدم أخباراً مغلوطة ومعلومات مضللة، المهم أن ينجح في تكوين جمهور من المتابعين!!.
لا شك أن تقنية الاتصالات وعبر وسائل التواصل الاجتماعي قد منحتنا بعداً من التقدم الهائل في المعرفة والثقافة، ولكنها في المقابل قد قطعت علينا سحر المطبوعات الورقية، فلا تجد نكهة أو رائحة لصفحات الكتب والدوريات العلمية، هذه النكهة لا تدركها الأجيال الناشئة، فقد أصبح التسارع الزمني هو سيد الموقف، وأضحى المرء يبحث عن الاختصار، فلم تعد لديه القدرة على قراءة مقال تحليلي أو علمي؛ لأن وسائل التواصل الاجتماعي قد نجحت في تقديم صورة أو مقطع فيديو قصير يلخص الحرب الروسية الأوكرانية مثلاً.
على الرغم من تزايد عدد مستخدمي خدمة الإنترنت في بيئتنا العربية عموماً، إلا أننا لا نزال نشهد قصورا في صناعة الثقافة، لأن المحتوى العربي أغلبه استهلاكي، وليس إنتاجيا، بمعنى أنه لا ينتج علما أو يساهم في صناعة معرفة؛ كون أغلبه يتضمن المحتوى الترفيهي الذي قد ينحط لمستوى التفاهة، وهنا مكمن الخطورة عندما تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصة المعرفة في المجتمع، لا سيما أن سلسلة عميقة من خوارزميات الذكاء الاصطناعي تقف وراءها لتوجيه سلوكنا وتهيئة مستقبل الناشئة، ويكفي أن ندرك أن تطبيق التيك توك الصيني يقدم لأطفال الصين محتوى ثقافيا وتعليميا، بينما يقدم لنا في نسخته العربية ترفيها ينحط أحيانا إلى درجة التفاهة!!.