[email protected]
ما أصعب أن تكتب عن التاريخ وأنت تشهده بأم عينيك في الوقت ذاته. ماذا عساك أن تقول لحظة صنع الحدث؟ تتزاحم الأفكار، تختلط المشاعر والأحاسيس وتتزاحم، يختلط الصدق بالشك، يختلط الحلم بالواقع، تترادف المشاعر والأحاسيس، ولا تدري عن أيها تتحدث. تمر على الناس والأفراد لحظات تاريخية في حياتهم تكون شواهد على أحداث بعينها، وهي من جسامتها لا تحدث كل يوم. هذا هو الحدث التاريخي، هذا هو التاريخ في أبسط صوره.
منذ العشرين من هذا الشهر ونحن في الخليج والجزيرة والعالم العربي والعالم برمّته نعيش التاريخ. إننا نعيشه لحظة بلحظة. وأمام هذا السيل المتدفق من تفاصيل هذه التواريخ نشهد بأم أعيننا وقائع المونديال تتكشف عن نفسها أولًا بأول.
إنك والله لا تدري عن أي جزئية تتحدث؟ هل تتحدث عن حفل الافتتاح الأسطوري، الحلم، كما شدا به مطرب الحفل فهد الكبيسي ورفقاؤه الحالمون، أم هل تتحدث عن الحفل ذاته محتوى وإخراجًا. هل تتحدث عن فتى الهِمَم غانم مفتاح في حواره التاريخي مع مورغان فريمان. هل تتحدث عن هذا الحوار الذي يرتقي لأن يكون نصًّا أدبيًّا بامتياز يُدرَّس في الجامعات. هل تتحدث عن تلامس سبَّابة الفتى الملهم، والممثل الأيقونة، وكأنهما يجيبان على رائعة مايكل أنجلو في قصة الخلق، كما رسمها فنان النهضة الإيطالي في سقف كنيسة السستين. لك أن تتحدث في هذا الحفل عن أي مشهد، عن أي لحظة من لحظاته، إنه فيض بصري سمعي يخاطب وجدان العالم برمته، بلغة عربية من أرض عربية، بروح عربية.
وكما كان التاريخ على موعد مع هذا الحفل، فإنه قد ضرب موعدًا آخر مع العرب في موقعة الوسيل التاريخية، عندما هزم ممثل العرب المنتخب الأوفر حظًّا للتتويج باللقب، في سابقة تاريخية هي الأعلى دويًّا في سماء الكرة العالمية. في حدث التاريخ لكل فرد قراءته. فمن أقصى الأرض إلى أقصاها، ومن شرقها إلى غربها، ومن شمالها لجنوبها، لا حديث للناس على قنوات التلفزة، أو في وسائل التواصل أو على شبكة الإنترنت إلا عن الحدث الجلل، عن التاريخ الذي ما زالت وقائعه تتكشف للتو.
سيذهب المحللون والنقاد والمعلقون، وكل إنسان في توصيف ما حدث، مذاهب شتى. غير أن قصة ذاك النجاح المدوِّي تبدأ بلقاء صانعي ذلك الانتصار بهرم القيادة: «اذهبوا واستمتعوا باللعب بعيدًا عن أي ضغوط خارجية».
هي كلمات بسيطة على اللسان، لكن تأثيرها على اللاعبين هو ما صنع منهم أبطال الحدث وصُنَّاعه، وأصبحت أسماؤهم على كل لسان. سيحدثك المحللون الرياضيون عن خطة لعب ومصيدة تسلل في منتهى الذكاء، وسيحدّثك التربويون عن الإحساس العميق بالمسؤولية، وسيحدّثك الإداريون عن تخطيط إداري مُحكَم، وسيحدّثك كل بما يفقه، فالكل شريك في النجاح.
قبل اللقاء كان هناك أمر، وبعد اللقاء أصبح هناك أمر آخر. كيف يمكن لفريق مصنّف 53 عالميًّا أن يهزم فريقًا هو الثالث عالميًّا بقيادة نجم ملأ الدنيا وشغَل الناس، وأن يكسر رقم 36، وهو عدد المباريات التي لعبها من دون هزيمة. هذا هو التاريخ بلغة الأرقام.
في 22-11-2022، وللتاريخ رقميًّا رمزيته، صنع أفراد المنتخب من حارسهم إلى رأس حربتهم فرحة عربية من المحيط إلى الخليج. لقد كانوا أبطالًا قوميين. في كل ساحة، ومقهى، وبيت، لا تسمع إلا أصوات الفرح. لقد أدخلوا السعادة لكل بيت عربي، فلنا جميعًا كعرب أن نفرح بهذا الإنجاز.
ولأن الحديث هنا عن التاريخ، وهو يتكشف أمام ناظرينا، فقد يكون من المناسب التذكير بإنجاز المنتخب عام 1994 بالولايات المتحدة، وهدف سعيد العويران التاريخي الذي وضع المملكة على خارطة الكرة العالمية، وانتصار الجزائر على ألمانيا عام 1982، ومن قبله فوز تونس التاريخي على المكسيك عام 1978 كأول انتصار للعرب في كؤوس العالم. ولأن المونديال ما زال في بدايته، فإن صفحات التاريخ ما زالت بيضاء تنتظر من فرسان العرب تسطيره بأحرف من ذهب على أرض العرب.