عندما أقوم بتحضير حلقة عن تقنية أو ظاهرة علمية، أحاول أن أبحث عن الأسباب التي دفعت الإنسان لصناعة هذه التقنية من الأساس أو التاريخ المعاصر لبروز الظواهر العلمية. فعندما تظهر الدوافع التي جعلت الإنسان يخترع تقنية مثل استخدام الأجنحة بالسيارات أو الظروف التي جعلته يسابق من أجل الذهاب للفضاء، سيسهل على المتلقي فهمها مهما كانت معقدة.
وفي إطار بحثي عن حلقة أصنعها حاليًّا عن أقمار الاتصالات الصناعية، استوقفتني إحدى الرسومات التصميمية لأبعاد معززات الصواريخ المستخدمة في المكوك الفضائي أو Solid Rocket Boosters SRB، حيث كانت الأبعاد بين معززات الصواريخ المستخدمة في برنامج «المكوك الفضائي» تظهر 143.5 سم! ولسان حالي يقول لماذا لم تكن 145 أو 140 سم، لابد أن هناك سببًا جعل هذا الرقم الغريب يظهر. فنحن المهندسين نهوى التقريب بالأرقام، ولو سألتني عن كثافة الماء عند درجة حرارة الغرفة لقلت لك 1000 كجم/ م3، مع أنها بالواقع 997:).
هذا التساؤل أوصلني إلى رواية الزهير أو الظاهر بالعربية للكاتب البرازيلي باولو كويلو، عندما استغرب من المسافة القياسية المستخدمة في السكك الحديدية بالولايات المتحدة، وهي بنفس الرقم 143.5 سم! هذا الرقم أثار فضول باولو أيضًا، وسأل أحد موظفي محطة القطار عن سبب اختيار هذه المسافة الغريبة، فأجاب بأن البريطانيين هم مَن أسَّسوا ذلك.
ازداد فضول باولو حينها، فأخذ يبحث عن سبب استخدام البريطانيين هذا الرقم الغريب، حتى تبيَّن له أن هذه المسافة هي نفسها المستخدمة بالسكك المنشأة بالطرق البريطانية. وبعد رحلة طويلة بالرواية، تبيَّن له أن البريطانيين أخذوا هذا الرقم من الرومان الذين صمَّموا أول عربة حربية يجرُّها حصانان اثنان. حيث كانت المسافة بين عجلات العربة عندما وضعوا حصانين اثنين جنبًا إلى جنب هي 143.5 سم. هذا الرقم المبني تحت ظروف معينة، وزمن قديم هو المقياس الحالي للمسافة بين السكك الحديدية في حوالي 55% من السكك الحديدية حول العالم. ولعلك تتساءل يا صاحبي: ما علاقة هذه القصة بصواريخ الـ SRB؟
الأجزاء الرئيسية من الصواريخ المعززة المستخدمة في المكوك الفضائي كانت تصنعها شركة Thiokol في ولاية يوتا، وكانت ناسا تنقل هذه الصواريخ إلى قاعدة الإطلاق في فلوريدا عن طريق القطار، وبما أن هنالك نفقًا بطريق السكة الحديدية، اضطرت الشركة إلى تصغير أبعاد خزانات الوقود إلى 143.5 سم حتى تتناسب مع أبعاد السكة وتعبر بالنفق!
أي أن ما بناه الرومان قبل مئات السنين أجبر القائمين على برنامج «المكوك الفضائي» على تصغير خزان الوقود، وعندما أتى المهندسون البريطانيون لبناء السكك الحديدية بالولايات المتحدة بدأوا بالعمل فورًا، ولم يتساءلوا لماذا هذه الأبعاد؟ أو لماذا لا نجعلها أوسع؟
الروائي باولو كويلو يعلق: «أحيانًا التاريخ يجبر أناسًا معينين على اتخاذ قرارات وبناء إجراءات لا تعني بالضرورة أنها صالحة لكل زمن، لكنها استمرت لأنه لم يغيّرها أحد، ويمكننا قياس ذلك في أمور حياتنا أيضًا التي تحتاج إلى تغيير، لكنها تتطلب شجاعة»، فموانع التغيير أحيانًا تكون داخلية، يقول الإمام الشافعي:
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ
إِنْ سَال طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست
والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصبِ