الحنين هو ذلك الخيط الذي يشدنا كلما ابتعدنا، هو الصوت الداخلي الذي لا يزال يهمس في ذواتنا لنلتفت! هو اليد التي تمسك بيدنا آخذة بها نحو تلك الزوايا التي أسعدتنا يوما لنراها، وقد عفى عليها الزمن!
هو الدمعة التي ترتسم في أعيننا كلما أبصرنا صورنا القديمة التي جمعتنا يوما بمن تشتاق لهم قلوبنا، وتحن لهم أفئدتنا، ونبحث عنهم في سراديب ذواكرنا، علنا نسترجع ملامح وجوههم، وتفاصيل أجسادهم.
إنه الرجوع إلى ذات المكان وحدنا، لا نحمل في جعبتنا سوى جمرة الذكريات، ووهم الأخيلة! آملين أن تنفخ النار من جديد في مقاعد الماضي الحزين وثيابه البائدة الباهتة.
ولأننا في وهم الزمان، والمكان نرى أيام عمرنا تنسل من بين أيدينا دونما قدرة منا على استرجاعها، نلاحظ استعار مشاعرنا، واشتداد اشتياقنا كلما تقدمت بنا الحياة، وتراكضت ساعات أعمارنا أمام أبصارنا في أوراق الروزنامة!!
نعود إلى أشيائهم القديمة إلى قصصهم المحكية إلى صورهم الساكنة، وأعينهم التي نتأمل جمالها، وصفاءها وهدأتها فنرجع من هنالك خالي الوفاض، ليس بأيدينا سوى عكاز سقط هنا، ووردة ذبلت هناك، لنكتشف فيما بعد أنهم لم يرحلوا بمفردهم، فقد أخذوا رنة أصواتهم، دفء عناقهم، حرارة أجسادهم، دقائق ساعاتهم، ومرايا صورهم ليتحول الحنين آنذاك من اشتياق لألم، ومن استذكار لحرقة تتلظى في لهب شمعة الذكرى، وقساوة حسرة الفقد.
ما أعجبك أيها الاشتياق، وما أمرك!! ما أقساك حين تجبرنا على العودة إلى الوراء لنجلس على الأطلال كما جلس الغابرون من قبلنا، أولئك الذين بكوا وأنشدوا وذروا التراب على أنفسهم، أتراك تود لنا أن نكرر التجربة، أم تراك تستمتع بإذاقتنا ما أذقته لهم؟!
أنت يا من لا تتوانى عن زيارتنا بين الفينة، والأخرى، فتقض مضاجعنا وتلامس أرواحنا وتجعلنا نتأرجح بين اليوم والأمس، بين الوهم والحقيقة، بين ما كان بأيدينا فانسل منها كما ينسل الماء من أصابعنا، وبين ما هو الآن بأيدينا، وستحملنا أنت ذات يوم إلى الحنين إليه، أنت يا صدى ذكرياتنا يا رفيق أحاسيسنا ويا مركب أسفارنا يا محيطنا الساكن في الأعماق، الهائج في السطح، لا أحد سواك على الإطلاق يستطيع فعل ما تفعل!! فأمامك وحدك تتضاءل قوانا وتخفت نجومنا وأمامك وحدك تزهر ذاكرتنا وتتألق حواسنا فنسترجع الروائح، والملامح ونتلوى متأسفين على وقع أوتار لحنك الحزين.
أيها الحنين يا آخر الأسفار، ويا ميناء المراكب كيف لنا، ونحن المبحرون في عباب الأمواج أن نلامس الشطآن اليابسة؟ وكيف لنا، ونحن الجالسون على قمم الغياب الباردة أن ننعم بربيع السفوح المزهرة؟ نحن الذين كبرنا، ولم ننتبه ومضينا، ولم نرجع وفقدنا ولم نأبه، حتى أتيت أنت لتصفعنا، بعصاك الثقيلة، ولتجرنا بسلاسلك الطويلة، ولتعيدنا من حيث بدأنا، وكأنما بيننا، وبينك عهد، وميثاق قديم!
فسلام على من أبعدتهم الأيام وسلام على من افتقدناهم حد الاشتياق وسلام على من مروا بنا فتركوا ذكرياتهم، وأشياءهم ورحلوا، فما أوصدوا وراءهم بابا، ولا التفتوا، ولا لوحوا، فظل باب الذكريات مفتوحا على مصراعيه ينتظر أن تعبر به الأحداث السالفة، واحدة بعد أخرى.
وها أنا أخيرا أيها الشوق يا مؤشر الموت، ويا علامة المحبة أستحلفك بالماضي، وما حملت، أن ترأف بقلوبنا المتعبة وبأعيننا الدامعة وبأرواحنا التي أنهكتها بجلدك وآلمتها بوقع سياطك ألا تطيل مكوثك فوق قلوبنا، وأن تتزحزح عن مقعد ذاكرتنا فتترك لنا أن نعيش ما تبقى لنا بسكينة، وطمأنينة.
لقد آن لجراحنا أن تلتئم، ولآلامنا أن تتماثل للشفاء، آن لنا أن ننام على وسادة الغد، لا الأمس، وأن تشدنا حبال الحياة نحو المستقبل.. دعنا يا خير أصدقائنا، وأكثرهم وفاء، دعنا نمض دون أن نلتفت، نرى دون أن نبكي، نشعر دون أن نعيا، أن نمر على أرصفة الانتظار، ونحن لا ننظر إلى خطواتنا الماضية، لنبدأ هاهنا حياة جديدة فنتعافى مما مضى، ونعبر بسلام.
al_sagre@