@ghannia
يقول ابن خلدون في مقدِّمته : إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، مدني بفطرته؛ يألف ويؤلف، ويؤثر ويتأثر، يحب الاجتماع والاختلاط والأنس، ويكره العزلة والانفراد والوحشة، لا يستطيع أن يعيش بمفرده، ولا يمكن أن يستغني عن غيره .
وفي زيارتي الأخيرة لحضور إحدى مناسبات العائلة، أدركتُ هذا المعنى، فالحياة مع الناس، وبخاصة أن تجتمع بمحبيك الذين لم يجتمعوا إلا لأجلك وتقديرًا لشأنك، فتصبح على لقياهم، وتمسي على ابتسامتهم، وتأكل على ذات "سفرتهم"، وتنشغل عنهم بهم ولأجلهم، بل تتنازل عن الكثير من اهتماماتك وضرورياتك لصالحهم، ولا ترى الصخب والصداع المصاحب لتلك الاجتماعات إلا كالنسيم الهادئ! بل تجد النوم في الزحام بنظام "زمن الطيبين" أجمل وألطف من النوم في الفنادق ذات الغُرف الهادئة! بل تحرص عليها، وتتمنى أن تكون ضمن القائمة المختارة الذين يطلقون أيمانهم المغلظة لأجل أن تكون معهم فلا "تمدن" و"تحضّر" في حضرة الأحباب!! بل الجمال كل الجمال في مزاحمتهم وازدحامهم!
وإن كانت تلك الأيام الجميلة القليلة لا تتكرر، بل جمالها بأن تأتي على تباعد؛ لأنه كما يقال إن الاختلاط (الدائم) بالناس، وكسر حاجز الخصوصية، بل فقدها، له أثره على النفس، ولابن القيم كلام في دوام الخلطة بالناس وكثرتها، يقول فيه: "فأما ما تؤثره كثرة الخلطة: فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسوَد، ويوجب له تشتتًا وتفرُّقًا وغمًّا وضعفًا، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكرة في أودية مطالبهم وإرادتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟ وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وأحلت من رزية، وأوقعت من بلية، وهل آفة الناس إلا الناس؟، ثم ذكر أن من الضوابط اعتزال الناس في فضول المباحات".
وبالرغم من حرص البعض على "الجدولة" الدائمة مع الأصحاب والأحباب، فلا يمر يوم إلا باجتماع يظل في حاجة للخلوة مع النفس، والتحدث معها، ومعاتبتها ومصارحتها، وتفقد مصالحها وواجباتها، فالكثير من الواجبات والمصالح تذهب وتذوب، وتتماهى مع الآخرين، بل تهون رغم أهميتها؛ لأن الناس مؤثّرون بطبعهم، فمن الصعب أن تشذ عن الجماعة وقد اخترت أن تكون بينهم أو تفسد عليهم نظامهم وقد أجبتهم، وضابط الاجتماع بالناس هو التوسط، فلا إفراط ولا تفريط؛ لأن كلا الأمرين مرهق ومتعب، فالمنعزلون انعزالًا تامًّا لا يستطيعون العيش في هذا الكوكب، والتعامل مع البشر دون أن يكتشفوهم، و"يكتووا" ببعض نارهم!
أما مَن يدخلون مع الناس دخول "المدرعمين"، فيصادقون بسرعة البرق ويشرعون أبواب قلوبهم من أول وهلة، ويقبلون الدعوات، ولا يشعرون بريبتها، فعليهم أن يراجعوا قاموس الاختيار في حياتهم، فحتى الصداقات والتعارف لها قوانينها، "فالسوالف" العابرة ليست كتكوين علاقات دائمة لها تبعاتها!!
وعودة على أهمية الخلوة مع النفس أو الخلوة مع العائلة الصغيرة فكم نحن بحاجة لها، بل بعض أفراد العائلة يشتاقون لبعضهم مع انشغال كل فرد بنفسه ومجتمعه الخاص في دوامة لا تنتهي، أما المرأة التي "لا تهجد"، ولا "تسكن في بيتها"، فهي مذمومة و"منقودة" عند العرب، بل يقال إن بعض النساء عباتها على رأسها لا تنفك عنها أبدًا، فهي متحفزة للخروج في أي لحظة، فلا تترك فرحًا ولا ترحًا إلا وهي في المقدمة! فلا شغل لها إلا الزيارات والاجتماعات، والبيت يشتكي صاحبته وفراقها الموجع!!
والحقيقة أن "البوك" أيضًا يحتاج لترشيد استهلاك، فقد ضاق ذرعًا بطوفان الترفيه الذي لا يبقي ولا يذر! ثم نتحدث عن انعدام البركة في المال والوقت، ونحن مَن أعدمناه وقتلناه شر قتلة!