@ALAmoudiSheika
بعض ممن التقيتهم في دروب الحياة كانوا تحت حكم قضائي أصدروه على أنفسهم بأنفسهم، فكانوا في محكمة الأيام المدان والمحامي والقاضي وآمر السجن، سجونهم التي بنوها وفق معايير متقنة محكمة الإغلاق، لا يستطيع أصحابها الفرار منها إلا بحكم استئناف فيه يكونون هم القضاة والمحامين وآمري السجن، وهم المفرج عنهم.
رأيت بعضهم احتجزوا أنفسهم بزنزانات أجسادهم قيَّدوا مزاجهم وأحلامهم وهواياتهم بها غير راضين عن أنفسهم، فصنف منهم تجده يتناول الطعام ثم يجلد نفسه بعبارات صامتة تشي بها له عينه وهو يلقي نظرة عبر المرآة، وعلى كل عاكس يمر به، وصنف آخر يجوّع نفسه جوعًا شديدًا، ثم يشاهد الرائي ويتأسى على المحرومين الذين يبحثون عن لقمة عيش في مكب النفايات.
رأيت مَن حبسوا أنفسهم في الحزن، وأوثقوا ذاتهم به، فكل سلبيات العالم ارتداها؛ لأنهم لم يجدوا وظائف أحلامهم، ولم يرضوا براتب قُدِّم لهم، ورفضوا عروضًا مغرية كثيرة؛ لأنهم بنوا سقفًا لمتطلبات دراستهم.
رأيت البعض اعتقل نفسه في دائرة «لِمَ»، فقد كبَّل نفسه بالمقارنات، وسبى ذاته بقوله «لِمَ هو وليس أنا»، وعليه قارن بينه وبين الغير في كل شيء دون استثناء، حتى في أقدار الله المكتوبة التي ليس للبشر فيها حول ولا قوة.
رأيت بعضًا منهم أصدروا حكمًا منصفًا، وأطلقوا سراح أنفسهم، ولم يعودوا لتلك القضبان، فقد فهموا مشكلتهم ثم اعترفوا بها، وبعدها باشروا بالحل، وحلولهم لم ترد فيها احتمالية، بل حلول ناجحة اقتلعت المشكلة من جذورها كي لا تنمو من جديد، فقد فهم المسرفون مشكلاتهم مع الطعام، واتفقوا معه أنه وسيلة للحياة وليس غايتها، وفهم العازفون عنه أنه وسيلة لحياة صحية، وليس عقوبة ليمتنع عنه.
رأيت مَن يخرج من زنزانات الأحزان باعتراف أن المجتمع غير مسؤول عن السقف الذي بناه لنفسه دون أعمدة، وتيقَّنَ أن التنازلات أحيانًا مطلوبة لضمان سعادته، فرضي بأن يعمل في وظيفة تلبي احتياجات قريبة من تخصصه أو بعيدة، لا يهم فهي الخطوة الأولى كي لا يغرق في السلبية، ثم جعلها منطلقًا على إثره خطوة بخطوة، اقترب مما يطمح إليه، خطوة بخطوة، وبعد خبرة حصل على الراتب الذي يريد، تعلَّم أن يبدأ بالموجود ليحقق ما يرجو.
معتقلو دائرة «لِمَ» رأيتهم يخرجون زمرًا من زنزانتهم، فقد حرروا أنفسهم عندما شغلوها بأنفسهم واكتفوا، وعندما ألحَّت عليهم طيوف «لِمَ» قالوا مستكملين مفرداتها: لِمَ لا أكون كذاك الشخص في خلقه، وعند هذا الحد ماتت عبارات المقارنات لديهم ولم تنبس بحرف.
* إطلاق سراح
أعتى السجون سجن الإنسان لذاته، وفي تلك السجون حكم التسريح لا يصدره سوى قناعاته.