يرى بعض المؤرخين أن هناك فجوة غامضة وقعت بين التاريخ القديم لجغرافيا الشرق الأوسط وبين تاريخها الوسيط، فالحضارة المصرية ظلت ظاهرة أمام المصريين بأهراماتها وآثارها ونقوشها بيد أن لغتها المقيدة على الجدران ظلت غامضة لقرون مديدة، وذات الأمر ربما يتكرر في بعض الجغرافيا الأخرى كالعراق والشام وحتى تاريخ الجزيرة العربية القديم، وربما ساهمت التوراة المحرفة أو ما تسمى في تراثنا العربي بالإخباريات بتعبئة تلك الفجوات الزمنية بالأساطير والقصص والحكايات المروية، وقد ساعدت الثقافات القديمة التي كانت شفاهية ولم تكن كتابية على توسيع تلك الإخباريات كمصدر معرفي ثم ساهم التدوين الكتابي في العصر العباسي باعتمادها المصدر الرئيسي للمعرفة التاريخية مما ساهم في تضبيب الصورة الحقيقية للتاريخ القديم.
أولى هذه النقلات النوعية في إيجاد مصادر معرفية أخرى للتاريخ القديم كانت عبر الرحالة المستشرقين في القرنين التاسع عشر والعشرين، فساهم الفرنسي شامبليون في فك رموز اللغة الفرعونية القديمة الهيروغليفية والتي ساهمت كثيرا في اكتشاف تلك الفجوة الغامضة في التاريخ المصري القديم، ومن خلالها عرفنا ترتيب الأسر الحاكمة والكثير من الأحداث المصرية القديمة، ولو أخذنا مثلا الرحالة الإنجليزي الشهير هاري سانت جون فيلبي والذي التقى بالملك عبدالعزيز رحمه الله، وأعجب بشخصيته وقد أسلم لاحقا وتسمى بالحاج عبدالله فيلبي، وقد ساعده الملك عبدالعزيز وقدم له المعونة في إكمال رحلته إلى أغلب بقاع الجزيرة العربية، وتعد مذكراته ذخيرة معلوماتية فخمة لتاريخ الجزيرة العربية، ويحسب له اكتشاف العديد من الكتابات التاريخية المدونة على صخور وجبال الجزيرة العربية في شمالها وجنوبها، وترجمتها من أصولها المسندية أو الثمودية إلى اللغة العربية الحديثة، فكانت له مساهمة فخمة في معرفة الدول والحضارات التي سادت قديما في الجزيرة العربية.
في بداية القرن الحادي والعشرين، فتحت لنا التكنولوجيا مصدرين تقنيين مهمين في معرفة التاريخ القديم، الأول هو تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتي أصبح من خلالها تحليل الوثائق التاريخية وإكمال بقية النصوص الناقصة التي أتلفت نتيجة لعوامل الزمن أو الإهمال، كما يمكن من خلال هذه التقنية إعادة تشكيل وجوه البشر الذين عاشوا في تلك الحقب البعيدة من خلال محاكاة التماثيل أو المجسمات المنحوتة أو المومياوات أو الرسومات !!، والثاني هو تقنية الشفرة الجينية DNA والتي أدت إلى تأسيس علم جديد أطلق عليه علم الجينات البشرية، وهي تقنية حديثة تظهر السلالة البشرية التي ينتمي لها الفرد، وهو علم لا يزال في أطواره الأولى بيد أن المهتمين به يرونه يتقدم بصورة متسارعة في كشف العديد من غموض التاريخ البشري كما يفسر طرق الهجرات البشرية القديمة، ولا يزال هذا العلم يتحفنا بمفاجآت علمية مثيرة حول حقيقة التاريخ القديم.
وفي الختام،، هل ستغير التكنولوجيا الحديثة من نظرتنا للتاريخ البشري القديم، بمعنى أن التاريخ سيكتب من جديد أم أن للإخباريات القديمة والمرويات الموروثة أثقالا تنوء بذهنيتنا الجمعيَة لقرون مديدة ومتجذرة في الماضي ومن المستحيل التحرر منها وسيظل لها حضورها الموازي في تفسيرنا لأحداث التاريخ القديم ؟!!.
@albakry1814