[email protected]
شهدت الرياض في الأيام القليلة الماضية حدثَين مهمَّين. الأول هو عقد مؤتمر الفلسفة في دورته الثانية، والآخر تدشين مطار الملك سلمان الدولي. ولنا مع كلٍّ من هذين الحدثَين وقفة مفصَّلة.
كان محور المؤتمر هو استكشاف الفضاء، وما ينتج عنه ويصاحبه من تغيرات فلسفية تطال عددًا من جوانب الحياة على الأرض وفي الفضاء.
كانت المحاضرة الافتتاحية بعنوان «لماذا يجب أن نتهيأ لعالم عبر الكواكب»، ألقتها مشاعل الشميمري مهندسة الطيران والملاحة الفضائية ومهندسة الصواريخ الفضائية، وقد قدمت المحاضرة بالإنجليزية بأسلوب لغوي طلق، وصفه الغذامي في محاضرته التي تلتها، والتي كانت بعنوان «البشرية في الفضاء: المجد أم السلطة»، بأنه أقرب إلى أن يكون نصًّا أدبيًّا منه أن يكون محاضرة علمية.
بدوره، استعرض أستاذ النقد الأدبي مستقبل الفلسفة في عالم استكشاف الفضاء بأسلوب فكري راقٍ اختتمه باقتراح تبنّي شعار Space For Humanity استكشاف الفضاء للإنسانية؛ ليكون شعارًا للمؤتمر، وليكون مساهمة من المملكة في هذا المجال.
استمرت فعاليات الندوة ثلاثة أيام، تعددت محاضراتها ومتحدثوها وورش عملها، واللقاءات الجانبية والمجالس المصاحبة لها. وبالرغم من أهمية الطروحات التي قُدِّمت، وبالرغم من تعدد العناوين والمواضيع، إلا أنه يلاحظ وباستثناء الإشارة المتكررة لسقراط في محاضرة الغذامي، فقد خلا المؤتمر أو كاد من ذِكر فلاسفة البشرية العظام إلا فيما ندر. تلك ملاحظة عابرة، وكما يقول المَثل أهل مكة أدرى بشعابها، ويبقى عقد المؤتمر، وسط صرح معرفي مُحاط بالكتب من كل جانب، تجربة لا تُنسى، تجسَّدت فيها عبقرية المكان بفضل عمارته بعد عملية التجديد التي شهدتها مكتبة الملك فهد الوطنية.
إنها بحد ذاتها مثال يدرس في مشاريع التجديد العمراني.
ومن صرح عمراني إلى آخر. فقد تم الإعلان عن تدشين مشروع مطار الملك سلمان بالرياض. ما زالت البيانات المتعلقة بالمشروع غير متوافرة، لكن ما رشّح عن المشروع من أرقام وجوانب لوجستية، والهيئة المعمارية والعمرانية له يُنبئ بمفهوم جديد في عمارة المطارات. لعل أهم ما يميز المطار الجديد هو ارتباطه بالمكان.
يبدو المطار وكأنه نقلة حديثة للقرى والبلدات التقليدية بالمنطقة الوسطى من المملكة. ويمكن رؤية ذلك في الكتلة العامة لمجمع المطار. وهنا تم استيعاب قاعات المطار المقام حاليًّا وإحاطتها من جهات ثلاث بكتل عمرانية تحيط بمدارج هبوط الطائرات. يخترق هذه الكتل ممر (وادي) يربطها جميعًا ببعض. إنه أشبه بحزام أخضر، وقد توزعت مرافق المطار على جانبيه. أما الكتل ذاتها فقد تمت تجزئتها حسب برنامج معماري طموح إلى كتل ووحدات أصغر بعضها متعامد، وبعضها الآخر يذكّر بعشوائية النسيج العمراني التقليدي في المدن الصحراوية في العالم الإسلامي.
ومما رشّح من صور لهذه الكتل فإننا أمام بناء جعل من المكان (من الصحراء) منطلقًا له في تكوين الكتلة الأفقية للمطار، وتخلخل فراغاتها، وتسلل ضوء الشمس إلى باحاتها المظللة، وجدرانها الرملية، والمثلثات البصرية التي تحاكي مثيلاتها في نفس المكان. هكذا يعلن المطار بوضوح عن نفسه. إنه ابن الصحراء في ثوب عصري قشيب.
يمثل مطار الملك سلمان بهيئته الجديدة انتقالًا نوعيًّا لعمارة نورمان فوستر بدءًا ببرج بنك هونج كونج وشنغهاي، مرورًا ببنك التجارة في فرانكفورت، وأبراجه المكتبية المتعددة في لندن، وصولًا إلى برج الفيصلية في الرياض.
في هذه الأعمال كانت التقنية هي مصدر تميّزها. أما في مطار الملك سلمان فإن المكان هو مصدر تميّز عمارته.
وعند النظر لخارطة العالم تبرز الجزيرة العربية والمملكة فيها عقد التاج، وكأن هذه الكتلة من اليابسة جسر عبور بين قارات ثلاث. ضمن هذا السياق الجغرافي يمكن لنا قراءة المطار من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية كذلك. إنها لرؤية ثاقبة. فيا لها من رؤية ويا له من مطار.