في الأسبوع الماضي تحدثت عن هيرمان بورخارت، ذلك الألماني الرحَّالة الذي شاءت ظروف عصره أن يكون أول مَن التقط صورًا فوتوغرافية للأحساء ومدن الخليج العربي، فلم تكد تُعرف تلك الآلة التي شاع استخدامها في الدول الأوروبية، وليس منذ سنوات طوال. وعندما قرَّر رحلته جهَّز نفسه بمعداتها وأدواتها بعد أن تعلّم بورخارت العربية منطلقًا من دمشق التي اتخذها مقرًّا للعديد من رحلاته. وقد دوَّن في مذكراته العديد من الملاحظات، والتي أتت لتُشعرنا بماضٍ قديم وكأنه أحد أيام ألف ليلة وليلة، ومن مشاهد فوازير رمضان.
ذكر بورخارت بعد ما قدِم للهفوف أنها «تضم على الأقل 30.000 من السكان، جميعهم من المسلمين، وبينهم كثير من أهل السنة والجماعة، وثمة ثلاثة أحياء متمايزة في المدينة: الكوت، محاط بأسوار عالية، وفيها يوجد السراي، والمدرسة الابتدائية، والثكنة الكبرى، ومساكن الموظفين العسكريين والإداريين. وذكر من الأحياء الأخرى حي النعاثل والرفعة.
وعن أسواقها، ذكر مما فيه دلالة على أن أغلب المشغولات تتم من خلال المنازل، وهي أيضًا أقدم إشارة إلى ما نسميه اليوم بالأسر المنتجة، فقد كانت البشوت على سبيل المثال، وإلى عهد ليس ببعيد عنا، أغلبها من صنع النساء في المنازل، كذلك وصف نمط الأسواق والبيوع، وذكر «يقع السوق خارج أسوار حي الكوت، وهو سوق غير ذي شأن؛ إذ إن الأعمال التجارية تتم غالبًا في الدور. وبين الكوت والسوق يوجد سوق الخميس، وفيه من تحت العرشان المصنوعة من خوص النخيل، تُباع جميع أصناف المواد الغذائية، ومن بينها الكثير من السمك والربيان المجفف القادم من القطيف. والنقود المتداولة هي ريالات ماريا تيريزا، والنقود الرمزية الهندية، والنقد الغريب المسمى الطويلة. وهذه الطويلة تتألف من قطعة من سلك نحاسي مطوي، عليه نقش غير مفهوم. ولا بد أنها أقدم عملة متداولة».
كما أشار بورخارت واصفًا تلك العملة بأن بداية إصدارها جاءت في زمن القرامطة قبل أكثر من 900 سنة حصريًّا لأجل الهفوف. وعن قيمتها ذكر «ينال المرء ما يصل إلى 100 منها مقابل ريال واحد».
ومما جاء بوصفة الأحساء «تمتد واحة الأحساء على مساحة واسعة جدًّا، وآجام النخيل المشتبكة الرائعة تمتد لمسافة ساعات من المسير، تتخلل بينها بعض مزارع قصب السكر، والحنطة، والتيلة، وهناك أيضًا بعض الفواكه كالعنب، والمشمش، والبطيخ، والتين، ونوع من الليمون السميك القشر، وأما الخضار فمنها أصناف قليلة. وفي جميع الأرجاء تجري جداول المياه الرقراقة، وثمة أسماك صغيرة ملونة، وسلاحف تتواثب في المياه العميقة التي تبلغ درجة حرارتها 30-32° مئوية. وعلى بُعد حوالي ثلاثة أرباع الساعة من الهفوف يوجد حمام خرب، ولكن ما زال يقصده الزوار بكثرة، وفي حذاء المياه العذبة ثمة آثار ممتدة لمياه مالحة».
ومما ذُكر أيضًا طبيعة المنطقة الرملية «كانت المنطقة (خارج الهفوف) ذات أرضية رملية منتظمة، وفي بعض الأحيان تغطيها دغلات عميقة، أما الآبار فكانت مياهها على الغالب مالحة. ولأجل سقاية الجمال، كانت تُحفر أخاديد ضحلة وتُبطن بالجلد، بحيث إن الماء النازل فيها لا يغور بسرعة».
غادر بورخارت الهفوف يوم 19 يناير 1904 متوجهًا إلى الدوحة في قطر مستعينًا بعدد من أفراد القبائل في رحلته للحماية، ذكر منهم المنصوري، الهواجر، المرة، والمناصير. وقد جاء في مذكراته أنه مرّ وعبر جبال الأربع. وذكر «مضينا في مسيرنا (من الهفوف) لكننا توقفنا لنصب المضارب بعد مجرد ثلاث ساعات ونصف، قرب تشكيل صخري، والعرب يسمون هذا المكان الأربعة (جبال الأربع)». ومن المشاهد ذكر أنه قابل قافلة بها رقيق أثناء مكوثه في جبال الأربع.
وهنا أتوقف خاتمًا ذِكر مذكرات هيرمان بورخارت وزيارته للعقير والأحساء، ولعلها تحظى بالمزيد من التمحيص، ولعل الدارسين يخرجون لنا أبحاثًا مستفيضة مستلهمينها من وحي تلك المشاهد التي في الصور، ومن تلك المذكرات.