@MustafaAlmahdi
في كل عام في مثل هذا اليوم نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، ليس لمجرد الاحتفاء والتذكير بالماضي التليد للغتنا الخالدة، ولكن للتطلع واستشراف المستقبل، ومواجهة التحديات بالعمل الجاد؛ لتعزيز مكانة اللغة العربية في يومياتنا وثقافتنا وأعمالنا وابتكاراتنا ومنجزاتنا من أجل حياة أفضل لأجيالنا القادمة.
وبوصفي خريجًا في جامعة أرامكو السعودية – طيبة الأرومة – وتزوّدي في تلك الرحلة الإنسانية المهنية بكل جميل ومفيد، وأثر كبير في تأسيس رحلتي للتعلم مدى الحياة، وبخاصة في مهارات التواصل، أجدها مناسبة مستحقة عبر هذه المقالة؛ لأن نشيد بالدور الذي ساهم به الكثير من الرواد الأوائل من أبناء هذا الوطن المؤسسين للصناعة النفطية في مد جسور التواصل، والتعامل الراقي الأصيل بمِداد الفخر والاعتزاز مع مَن كانوا معهم من الخبراء غير الناطقين بالعربية، وتأسيس تجربة نوعية في تعزيز الثقافة العربية، وحضورها في سجلات الصناعة الفنية والإنسانية والجغرافية إلى أدبياتها ويومياتها؛ لتكون إرثًا حاضرًا اليوم، وفي المستقبل في وجدان أبنائنا، ودافعًا لتقديم الأفضل على الدوام والتطلع للمستقبل برؤية وأمل محتفظين بأجمل الذكريات، وأزكى التقدير لأجيال سبقتهم، أحسنت التخطيط، وأنجزت الأعمال، وحوَّلت الحلم إلى حقيقة، والتحديات إلى فرص مستدامة.
إنها تجربة إنسانية ثقافية بامتياز قبل أن تكون فنية وتقنية، لم يكونوا منتجًا لعملية تعليم رسمية كما نعرفها، بل كان همةً تعلمًا فطريًّا، وتربيةً أصيلةً على قِيَم وعادات عربية لا تقبل المساومة، صقلت مواهبهم وتجربتهم، وعززت ثقتهم، فتعاملوا مع كل قادم لهذه البلاد الطيبة للعمل والإنتاج بحُسن الخلق، والكرم الأصيل، والمروءة العربية، والنخوة الصادقة، فلم يسجل عليهم التاريخ أي إساءة أو تقصير، بل تفوَّقوا في صناعة أثر كبير ومتعدٍّ في عقول وقلوب أولئك الخبراء والعاملين غير الناطقين بالعربية، فاستدامت علاقتهم مع هذه الأرض، فَوَثَّقُوا أجمل الذكريات عنها وأهلها، وكان للكثير منهم رحلة حولية لاستعادة تلك اللحظات ومشاهدة التطور الذي يسابق الزمن بعد تلك البدايات المثيرة.
على هذه الأرض المباركة، وبقدر حضور لغتنا العربية في يوميات أولئك الرواد، كانت وما زالت الصناعة النفطية حاضنة للعديد من الشعراء والأدباء والمؤرخين والمهتمين بالفلك وعلوم الأرض والبحار والمناخ والطقس، ولن يتسع المكان هنا لذِكرهم. وبقدر جودة الأعمال والأداء المهني، وتأسيس الخبرة والمعرفة والمهارة الصناعية، كان الإنتاج الأدبي فطريًّا وحاضرًا في المجالس والرحلات، وبقيت الشواهد حاضرة في الذاكرة الشفهية والمكتوبة، ولو عُدنا بالذاكرة 80 عامًا مضت وحاولنا رسم ذلك الواقع على لوحة فنية، لوجدنا رمز ثقافتنا العربية متمثلًا في صورة متجسّدة في وجداننا وذاكرتنا، وصنوًا للساننا العربي، إنها النخلة العمّة الرؤوم -كما وصفها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم – لقد كانت النخلة العربية بقامتها الباسقة هي الملهم والرفيق الدائم والعنصر الحاضر لمواجهة التحديات والتعايش مع تغيّرات العيش الصعبة، والمناخ القاسي، والظروف في جوانب عديدة. وعندما نستذكر صناعة النفط وبداياتها، وحضور اللغة العربية في مسمياتها وأوصافها، نجد النخلة، فللباسقة في جزيرتنا العربية مقام يجعلها تفوق ما سواها من الكائنات الحية الأخرى في تلك الصحاري القفار.
لقد كانت منتجاتها رفيق أولئك الرواد ودليلهم، ويشاء القدير أن يهب بلادنا نخلة أخرى مباركة، عرفناها في شجرة الزيت التي أفاضت على البلاد والعباد خيرات بلا حد. عمّرت الصحراء وأنارت لياليها، وأوصلت الماء إلى قمم أعاليها. شجرة الزيت في رقدتها تحت رمال الصحراء لملايين الأعوام كانت تخبئ لبلادنا كنوزًا لم تخطر على البال على يد قادة أفذاذ سطَّروا أسماءهم ومنجزاتهم بمِداد من ذهب في دواوين التاريخ. وبفضل الله، ثم القيادة الحكيمة والعقول المتوقّدة، والقلوب الحية، والسواعد المخلصة، يتواصل العطاء ويتعاظم الأثر منذ انطلاق الرحلة التي أسست على أصل ثابت، وقِيَم عليا، فمكنت فرص التعلم والتعليم والتطوير والبناء والابتكار وصناعة رفاهية ومعرفة قل نظيرها في التاريخ.
نعم نشعر بالفخر ونحن نرى شجرة الزيت بأغصانها الوارفة وهي تجلب النور والخير والازدهار في أنحاء بلادنا، نشعر بالفخر وثمارها تُنير المشافي والمعامل والمدارس والجامعات لتكوين أجيال مؤهلة برؤية طموحة.
لم تكن صدفة أن تكون هذه الأرض مهدًا للغة العربية – شجرة الحياة - وتراثها الأصيل هي الأرض عينها التي احتضنت النخلة العربية وخيراتها فبينما اندثرت زراعة المطاط الطبيعي بقيت منتجات النخلة والصناعة المشتقة منها متقدمة وقابلة للتطوير على مر الزمن، فقد تميَّزت صناعة التمور بالكثير من الابتكار، ساعدها على الانتشار في بلدان لم تكن تعرف منتجاتها، ولم يأتِ ذلك من فراغ بل كان ثمرة جهود توارثتها الأجيال؛ لتصبح النخلة رمزًا للعطاء المرتبط بالهوية والأرض، وبقي تراثنا الثقافي وفيًّا لها مذكّرًا بجمالها وشموخها ووفائها، وفي العصر الحاضر نجد منتجاتها مجالًا خصبًا للبحث العلمي الواعد، وبنفس الوصف يمكن القول إن شجرة الزيت التي احتضنتها الأرض ذاتها ستبقى شجرة جذورها أصيلة في أرضنا وثمارها المتعددة من منتجات مكررة وغازات ووقود ولقيم بتركيباته الكيميائية عنصر مهم وحيويّ لحياه البلايين من البشر، ويبقى السؤال، كما حافظنا على النخلة بالحب، وجنّبناها الاندثار، كيف لنا أن نحافظ على البقية؟
تلك الثلاثية هي فخرنا اليوم وكل يوم، وهذه دعوة متجددة لنا جميعًا؛ لتعزيز الجرعة الثقافية والمعرفية، وبلسان الضاد عن شجرة الحياة، وشجرة الزيت في رياض الأطفال، والمدارس والجامعات والأسرة والمجتمع، وكما نحرص على استنبات النخلة الطيبة في حدائقنا الخاصة والعامة، لنجعل شجرة الزيت والمحافظة عليها جزءًا من يومياتنا بوصفنا مجتمعًا يسعى للتقدم، وكما كانت الأجيال من قبلنا تستريح من عناء العمل في ظل النخيل؛ لتعاود النشاط، فعلينا في الوقت نفسه أن نواصل العمل تحت ظلال شجرة الزيت حتى لا يجف نهر الحياة؛ لنبقى متيقظين للمنافسة مع مَن حولنا ساعيين لاستشراف المستقبل، واستخلاص الدروس من تقلبات الأسواق العالمية مقدمين للعالم ثلاثية مستدامة تضيء الكون.