@DrAlghamdiMH
التقاعد صراع بين الماضي والحاضر. أتحدث عن نفسي مع صراع المتقاعدين. شخصي «حفظه الله» يمثل جيلًا بكامله. أبي «رحمه الله» كان يمثل جيلًا آخر. أبنائي «وفقهم الله» يمثلون جيلًا ثالثًا، وأحفادي «باركهم الله» يمثلون الجيل الرابع. مع هذه الأجيال أقول: «يا ذيب لا تعْدِي». إن في حنايا الجسم نافذة، منها أرى المشاهد، وأردد: «جميعنا على كف القدر نمشي». معها أقول: «يا قلب لا تحزن». وأستدر عطف جوانحي وأنشد: «يا عين لا تبكي». أتلمس ملامح حياتي مع التقاعد. أخالها تردد: «سرى ليلي سرى». وظفت قوالب تلك الكلمات لتحقيق هدف فلسفي يحمل أبعادًا. أجمل القول أن أقول: «كل واحد ينام على الجنب الذي يريحه». هنا تتجلى فلسفة الكلمات المبنية على الفهم، لنجد أنها صحيحة أمام كل متقاعد.
سعادة الإخوة البشر -منهم المتقاعدون- الأمر ليس مزيجًا بين هذه الأجيال الأربعة، فكل جيل يمثل دائرة مستقلة، تحمل فلسفة حياة خاصة. تتناطح هذه الدوائر لكي تستكن. لكل جيل نسيج خيوط تشده لجيل سبقه. يحاول الجيل الثاني (وكنت منهم) الفكاك بخيوط جديدة، يرسمها لنفسه نحو المستقبل. في هذا الصراع تصبح الخيوط الجديدة قديمة بفعل تجدد الأجيال. أصبحت أحدهم بعد أن وصلت محمية (كبار السن). يتوالى الصراع بين ثلاث حزم من نسيج الخيوط الثابتة بين الدوائر الثلاث الأولى من الأجيال. أقصد ثابتة في العدد ومتغيّرة في النسيج. معها تتشكل عواصف الأسئلة، حتى تطرح هذا السؤال كثمرة: متى يتآكل أو يتقطع نسيج خيوط الآباء ليحل محلها نسيج خيوط الأبناء؟ الجواب: تتضح الأمور وتتبلور مع بداية التقاعد.
شد وجذب وعِراك لا يتوقف مداده. تعيشه الأجيال الجديدة المهرولة نحو المستقبل. هدفها الفكاك والهروب من قبضة هيمنة الآباء والاستقلال بذاتها. لكنها تجد نفسها في نهاية المطاف في نسيج خيوط الدائرة الأولى. تصبح وظيفتها الاستعداد للخروج النهائي من مسرح الحياة. وجدت أن هذه هي الحالة الوحيدة التي يُعيد التاريخ نفسه فيها، ولا نعتبره غباءً. البعض هنا قد يقشعر مزاجه بسبب قولي: «الخروج النهائي» أو ما نسميه «الموت». أجد الحديث عن هذا الموت متعة عظيمة. والسبب أنه تجربة لا يمكن لنا روايتها.
البعض يرى الحديث عن الموت شؤمًا. الإنسان عدو ما يجهل. بالمناسبة.. كتبت كتابًا قبل 30 عامًا، لم أنشره بعد؛ لأنه لم يكتمل. وضعت له العنوان التالي: «العبور إلى المستقبل». رأيت أن الموت هو المستقبل. في كل عام أرى أن أمامي مشوار عبور جديدًا، فأنتظر نهايته، وأضيف قصته بعد اكتمال عبوره. وهكذا لم أتوقف. إنه الموت قمة التفاؤل. أراه مساحة من التضاريس الجميلة والمفيدة والشيقة. ذلك يحدث في غياب معرفتنا بسر سريان الروح في أجسادنا.
بالعودة إلى نسيج خيوط الدائرة الأولى «جيل الآباء» كانت الأقوى في حياتنا -نحن الجيل الثاني، المتقاعدين حاليًّا- وظلت هكذا حتى بلغنا مرحلة الطفرة الشهيرة في سبعينيات القرن الماضي الميلادي. نسيج خيوط هذه الدائرة كان يحمل الخبرات والمهارات التراثية التراكمية لعشرات السنين. تستمد قوتها من ثبات حالها وخلاصة تجاربها.
بالتقادم يصبح الآباء بيوت خبرة وكنز معرفة. رتم حياة معارفهم لا يتغيّر لقرون. فأصبحوا في كِبرهم قادة وحكماء حضارة الرمق الأخير. في الوقت الراهن رتم الحياة أصبح أكثر سرعة مع إمكانيات ومهارات ومعرفة متغيّرة بشكل يومي. كنتيجة أصبح المتقاعد خردة وعالة. لم يعُد حكيمًا بسبب هذه القفزات الهائلة في المعرفة. أصبح المتقاعد عبئًا حتى على نفسه.
هنا أقف بكم لأتذكر قولهم: (تقطعت بهم السبل). نحن جيل تقطعت به حباله. نحن جيل أحرق سفنه بعد عبوره ضفة التطلع والطموح الذي تحقق بسبب الطفرة. أنشأنا خيوطًا من نسيج مختلف. العلم المتغيّر والزاحف إلى الأمام بقوة وسرعة يمثل ألوانه ومادته. قلاع الإمكانيات المادية الضخمة اعتلت بجيلنا حتى عنان السماء. كان نجمًا فهوى.