[email protected]
كان الثامن عشر من ديسمبر هذا العام استثنائيا لعدة أسباب. ففي هذا اليوم اختتم مونديال العرب، وصادف اليوم الوطني للدولة المضيفة للمونديال، كما أنه كان اليوم العالمي للاحتفال باللغة العربية. ولنا مع كل من هذه المعطيات وقفة خاطفة. فعلى مدى شهر كامل نسي العالم نفسه وسلط أنظاره على قطر. تقول إحصائيات الفيفا إن أكثر من خمسة مليارات إنسان شاهد كأس العالم عبر البث الفضائي، وأكثر من ثلاثة ملايين مشجع داخل ملاعب الكرة، وإن نسبة إشغال الملاعب بلغت 96 %. هذه الأرقام تتحدث عن نفسها. غير أن مونديال العرب أجاد الحديث بكل اللغات وكانت لغة الثقافة أبرزها. لقد كان المونديال ثقافيا بامتياز. لم يشهد العالم منذ البث التلفزيوني لمباريات المونديال مظاهر ثقافية لأي من دورات كأس العالم السابقة بهذا الحجم. لقد انفرد مونديال قطر بأنه رسالة عربية لغة وثقافة بامتياز. هذه هي الصورة من بعيد. أما عن قرب ففي ذروة هذا الحدث العالمي وجد العالم نفسه أمام مشهد أسطوري، هو إلى قصص ألف ليلة وليلة أقرب من أن يكون حقيقة. فقد رأى العالم بأم عينيه الفتى الأسطوري للمونديال وهو يتوشح بالبشت العربي، في سابقة فريدة في مراسم التتويج. يعرف التاريخ بإحداثياته الزمنية، وفي تلك اللحظات والثواني من مساء ذلك اليوم وقف التاريخ ليسجل لحظة انبلج منها شعاع الثقافة العربية الأصيلة مخترقا سماء الصحاري العربية ليصل إلى كافة أصقاع العالم. هكذا يكرم الأبطال.
لقد كان لباسنا مفخرة لنا، ولأننا عنوان الكرم، أفلا يحق لضيفنا أن يتوشح بأعز ما نملك. ذاك هو البشت. وهو لنا غني عن التعريف، غير أنه لمن يدور في فلك المركزية الغربية الفوقية بدا أمرا تم تفسيره بعبارات ترفضها قيمنا العربية قولا وكتابة. اسألوا هؤلاء ماذا يلبس خريجو جامعاتهم في أغلى إنجازاتهم في مسيراتهم الأكاديمية. اسألوهم ماذا يلبس القضاة في أعتى محاكمهم، واسألوهم ماذا يرتدى علية القوم لديهم في مناسباتهم المخملية. المركزية الغربية Eurocentrism حقيقة ثابتة وقد تجلت في هذا المونديال في صور جعلت منه كما كانوا يريدون صراع حضارات، كما تنبأ بذلك مفكرهم الأكبر صامويل هنتنجتون قبل عقدين من الزمن، غير أننا باعتزازنا بقيمنا حولناه إلى مونديال حوار الحضارات. لقد واجهنا قيم الانتقاص من الآخر والنظرة الدونية للشعوب خارج المركزية الغربية بأمضى سلاح. إنه سلاح القيم الإنسانية والأصالة الفطرية التي لم تلوثها مفسدات الحضارة الغربية.
لسنا نحن العرب أوصياء على أحد لكن اعتزازنا بقيمنا أمر غير قابل للنقاش. لقد كان ذاك البشت جملة حضارية بليغة لقوم هذه شيمهم. ويبدو وكأن مهرجان القيم ذاك كان على موعد مع القدر. فلم تكتف قطر بتتويج منتخب الأرجنتين وأسطورته بوشاح المونديال بل زفت المنتخب في موكب لوسيل ضمن موكب احتفالات البلاد بيومها الوطني. يذكر مشهد الخيل وهي تجوب جادة لوسيل بالمشهد التاريخي الآخر عند إشعال دورة الألعاب الآسيوية عام 2006. من شاهد ذاك المشهد لن ينساه. هكذا تتناسل مشاهد القيم والفروسية في مونديال العرب. هل شهد تاريخ كأس العالم احتفاليات وتكريما كهذا. اسألوهم. كان هذا على مسرح الحدث. غير أن الاهتمام باللغة العربية كان حدث الأسبوع بامتياز. وكما هو الحال في معظم المؤسسات المهتمة بالشأن الثقافي في طول المملكة وعرضها وفي المؤسسة الأكاديمية الأكبر في المنطقة الشرقية في جامعتها الأم بحاضرتها الدمام كان للعربية حضور بارز. وقد تجلى ذلك في عدد من المحاضرات والمحاور ألقاها بحضور معالي رئيس الجامعة ووكلاؤه وعمداء وعميدات الكليات وعدد من أساتذة اللغة والتربية وهذه بعض منها: مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة، الأبعاد الثقافية والحضارية لتعليم العربية لغير الناطقين بها، ودور الذكاء الاصطناعي في إثراء المحتوى الثقافي العربي. ولأن الخط هو عين اللغة فقد كان له نصيب وافر من الحضور تجلى في إبداعات عدد من طلاب وطالبات الجامعة. لقد كان أسبوعا وصلت فيه العربية كرة (بوصول المغرب للمركز الرابع) وثقافة ومناشط فكرية وأكاديمية قمما شامخة. وكما ورد في القول المأثور الوصول للقمة صعب لكن الأصعب هو الاحتفاظ بها.