@DrAlghamdiMH
استعرض ماضينا -كمتقاعدين- مع كل رعشة تساؤل، وهزة صدمة، ثم أقارن. إنها أوضاع تقودنا لتعظيم قوة جذب الحنين إلى ماض قريب فقدناه نهائيا. أوقفنا صناعة نسيجه، قطعنا خيوطه، ضيعنا محتواه، دمرنا هياكل قواه. أصبحت مهمتنا التغني بذكرياته، نسلي أنفسنا، نحتال عليها. النفس تعرف.. لم يعد بمقدورنا فعل شيء. نردد بمناسبة وغير مناسبة: كنا وكانوا.. نسجل بطولات غير صالحة للمستقبل.. نعظم شأنها. جعلنا كل شيء كان في ذلك الماضي محاسن خالية من العيوب. فأطلقنا عليه: الزمن الجميل، أي خداع هذا يمارسه المتقاعد؟
وصلنا مرحلة الترحم على ماضٍ هربنا منه في شبابنا. كنا نراه تخلفا، وبؤسا، وألما ورثناه. هل فقدنا قدرة التكيف مع نسيج خيوط الأبناء والأحفاد الجديدة والحديثة؟ جعلنا أنفسنا قوالب لا تتغير، تحوّلت إلى طقوس تحكم، نخجل من الخروج من دوائرها. انغلقنا فأغلقنا مصاريع التجديد. رسخناها عادات وتقاليد تقود وتتحكم، الخروج عنها عيب، أوصلتنا مرحلة عدم تقبل أن نعيش خارجها. فقدنا متعة العيش خوفا وخشية من قولنا: (يتشبب) أو (شيبة مخرف). الأكثر تأدبًا قولهم: (يا الله كبرا بهدى).
نحن جيل مارس البؤس على نفسه، وعلى جيل أبيه، علنا وخفية. سياط التغيير الذي أحدثناه طالت ماضي آبائنا العريق، الثابت بقدراته على العيش في أحلك الظروف قسوة وفاقة. مارسنا التنمّر، برمنا الشوارب، جعلنا العين حمراء، تجاهلنا الإعداد لمواجهة صراعات التقاعد. ما زلت أذكر تسمية جيلي لجيل أبيه بـ (الشاكوش). بعد التقاعد أصبحنا ذلك (الشاكوش). أحطنا أنفسنا بقيم جاهلة، عملنا على تجهيل أنفسنا، وبأيدينا غرسنا في أجسامنا مسامير وأطناب نعش النهاية ونحن أحياء.
أفواج المتقاعدين تتوالى.. لن يتوقف دفق مجراها.. لها احتفالات.. البعض يراها تكريما. لا يكون تكريمًا إذا لم يغرس في النفس الانتماء والولاء للصرح الذي كنا نعمل في بناء كيانه، وأيضا تكريم يرثه الورثة رمزا لفخر مستدام. شخصيا كمتقاعد لم أعش التكريم. ما زلت أحمل غصّة سوء النهاية والعاقبة من صرح كنت أعمل فيه. في حينه كان المسؤول يقوم بتكريم نفسه علنًا دون خجل. تجاهل تكريمي -مع غيري- بعد مسؤوليات قيادية وإنجازات متعددة يشهد بنجاحها الجميع. تعاطف الزملاء فقدموا لشخصي صندوقًا يحوي عيّنات من دهن الطيب.. وأرفقوا معها كيسا صغيرا يحتوي على حبات من قطع عود الطيب. تساءلت في حينه لماذا يا جامعتي؟ هل كان هدف زملائي تعطير أجواء تقاعد أفسدها سوء تصرف المسؤول؟ احتفظت بهديتهم للتاريخ، كتبت عليها ممنوع اللمس.
وبعد.. أجد الخروج من هذا العجين مفيدا للأحاسيس المعطلة.. لنخرج نحو الحقيقة.. أصبحنا جيل آباء في وضع حائر، مستكن، محتج، ومتفجر في نفس الوقت. جيل يحمل الشيء ونقيضه.. يمارسه أيضا.. جيل أصبحت كل خبراته خارج تغطية الطلب.. تسوقه الذاريات نحو ماضيه بعشوائية وغموض.. جيل أصبح يرى بطن الأرض أفضل له من ظهرها.. يرى الحياة موطن أمراضه، ومعاناته، وعدم تقبله. الأجمل الذي نواسي به أنفسنا -كمتقاعدين- ونعتلي بواسطته قمة سعادتنا هو رؤية أحفادنا في ظل غياب آبائهم بسبب سطوة الحياة، براءتهم تمنح التعويض.
ما يجري حاليا مع جيلي المتقاعد من نشاط في أي شيء هو اندفاع نشوة حماس رقصة الموت، فيه نخسر أكثر مما نربح. التقاعد مزيج صراع مع كل شيء، التقاعد حياة جديدة كحياة الأطفال بحاجة إلى عناية من نوع خاص ومختلف، بحاجة إلى تعليم من نوع خاص ومختلف، كل حاجاته ومتطلباته بحاجة إلى نوع خاص ومختلف.. التكريم أهمها.. صوره متعددة.
هل كان المتقاعد يعتقد بالعيش دون تقاعد حتى الموت؟ جار على نفسه بعدم وضع ما يخدمه من أنظمة وقوانين بعد التقاعد. كان باستطاعته فعل ذلك. وبعد لا تعليق أكثر مما يشرح الواقع. ماذا يجري بعد التقاعد للمتقاعدين؟ هناك سيل من القصص. تمتد من الوضع المبهج وتتدرج سلبا حد البكاء.