@DrAlghamdiMH
بعد إحالتنا نظامًا إلى التقاعد -كجيل- اقتربنا أكثر من مساحة رقصة الموت. لم يتوقف حراكها وشجن لحن موّالها. الموت أقرب لنا من أي وقت مضى. هكذا المؤشرات تؤكد. ونقول: لن نعيش أكثر مما عشنا. نحن المتقاعدين نحس بمؤشرات اقترابه. تفرغنا بعد التقاعد لسماع رنين أوتار عزفه وطربه. ننتظر التلذذ بتنوع رقصات إطلالته. نشارك في رقصة الموت هذه بإنجازاتنا في مسيرة حياتنا بعد التقاعد. جعلنا من هذه الإنجازات حلية نلبسها في ساحة محفله. نفخر ونتفاخر بها أمام هيبة مقدمه. أكثرنا شأنا من أنجز للآخرين إنجازات تدوم مع الأجيال.
مع حياتنا بعد التقاعد نواجه نتائج سرعة قفزات تغيير لم نألفها. فتصبح هذه القفزات طاقة تدفع بنا نحو مجال هذا الموت. تصبح حركاتنا الجسدية لا إرادية. ننجذب نحوه متهالكين. معالم تضاريس أجسامنا تميل نحو الأرض. تقل كفاءة أجهزة الجسم. تصبح حملًا يعجل بالنهاية. هذا ما يجعلنا سعداء بقدوم الموت. هل نستمتع بلحن مواله؟ الإجابة من جهتي إيجابية رفعت من قيمة جاهزيتي لرقصة تشريفه. هو الموت قادم في كل الأحوال. لا ننزعج ونغالط، ننتظر فقط.
نحن المتقاعدين نسخة بالية عفى عليها الزمن. يتم استبدالها لصالح الحياة. نحن ثمرة لها فترة صلاحية. تتجدد الحياة بأجيال جديدة متجددة. هذه حقيقة الكون الناضج في كل مجال. نحن كبشر نعرف مصيرنا المحتوم. ورغم ذلك نقول: لم نتوقع موت فلان وعلّان. أين النضج الذي نملك مع هذا القول؟ النضج هو إنجازنا الذي يضمن استمرار بناء الحياة متجددة وقوية للأجيال من بعدنا.
هناك من يقول مؤلم أن يجد الفرد نفسه ضائعًا في مسارات بنود غفلة الحياة. أتساءل بعد التقاعد: هل للحياة غفلة مع اكتمال نضجها؟ الإنسان من يضع شخصه في دائرة غفلة يصنعها لنفسه. يتوه بسببها نحو مسارات لا يعرف ماذا تحمل في نهاياتها من محطات. يسعى لتجهيل نفسه بتجاهل حقيقة أن الموت هو المحطات النهائية. حيث يكون الوداع بين الروح والجسد. تستلم الأرض الجسد والروح تختفي بسرها. إذا كان الجسد يرجع إلى الطين فإن الروح تصعد إلى السماء. لم نستوعب حكمة ودرس الروح والجسد إلا مع التقاعد. حيث يتعاظم تفكيرنا في أمر الجسد المنهك بعد عنفوان نشاطه. نتجاهل أمر الروح المتأهبة للمغادرة من جسد متصدع متهالك بالٍ. انتهى دوره. لم يعد صالحا لاستيطان الروح الشغوفة دوما. هل تنتقل هذه الروح إلى جسد آخر جديد على الدنيا؟ كيف لها ذلك؟ تتعاظم مثل هذه الأسئلة مع تقاعد يمثل فترة الانتظار الأخيرة.
بعد التقاعد عرفت علاقة الروح بالجسد. الروح شيء والجسد شيء آخر. اهتمامنا بالجسد في واقعه اهتمام بالروح. الجسد القوي يمثل الروح القوية. العلاقة بين الجسد والروح علاقة منفعة ليس إلا. لا جسد بدون روح. لا روح بدون جسد. هذه هي المنفعة. وظيفة الجسد حمل الروح. وظيفة الروح إعطاء قيمة لهذا الجسد. الجسد مجموعة أجهزة تحركها طاقة البقاء.
ما الفروقات بين الجسد والروح؟ هناك فرق جوهري أبحرت من خلاله في مسارات التأمل والتفكير. الروح لا تشيخ أبدا. ثابتة في شبابها لا تتغير. لكن الجسد متغير الأطوار. يمرض. يشيخ. يهرم ويتهالك. لكن الروح تظل شابة تحب الحياة. هكذا وجدت نفسي معها بعد التقاعد. الروح أشبه بطاقة الكهرباء نحس بوجودها من خلال وجودنا أحياء. إذا غادرت الروح الجسد يصبح كومة من مكونات يجب دفنها للتخلص من تأثيراتها السلبية.
بعد التقاعد يعاني الجسد أكثر من التقادم وسلبياته. وتظل الروح تواقة بطلباتها وشروط بقائها. الجسد المنهك لا يستطيع الوفاء بطلبات الروح وشروط بقائها. الروح مثل الكلب وفية لصاحبها. تظل في ثبات صبرها حتى اكتمال يقينها بأن هذا الجسد غير قادر على حملها. ينفصلان في هدوء. يودع الأحياء الجسد بجنازة. لكن من يودع الروح؟