الجوهر في رأي أرسطو هو الشيء المستقل عن ذاته، المستغني عما سواه. إنه فرد. إنه جوهر. والجوهر هو ما لا يمكن إرجاعه إلى ما هو أقل منه. وجوهر الشيء ماهيته وهو مصدر كل شيء فيه. والجوهر معطى أولي، وما اختلاف الأشياء إلا نتيجة لاختلاف جواهرها.
ويتصل بمفهوم الجوهر مفهوم الصورة. وهناك علاقة ترددية بين الجوهر وصورته. هذان المفهومان مركزيان لفهم العمارة، ليس من باب الفلسفة فقط، ولكن من باب المعرفة التي حان وقت تدريسها في قاعات مراسم التصميم المعماري.
كيف يمكن لنا ضمن هذا التعريف المبدئي للجوهر تعريف العمارة؟ هل العمارة جوهر؟ يذكر هذا الطرح بمفهوم الحضارة في المقال السابق. فإذا سمحنا لأنفسنا باعتبار الحضارة جوهرًا، باعتبار أن حضارات العالم تختلف عن بعضها اختلافًا جوهريًّا (مع ما قد يترتب على ذلك من جدل مشروع)، فإننا سنجد أن العمارة ليست بجوهر. إنها منتج. إنها تابع. إنها متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان. إنها وظيفة من وظائف الحضارة، وليس أدل على ذلك من الاختلاف الجلي بين عمائر حضارات العالم؛ إذ دأبت كل موسوعة حضارية بتخصيص فصل مستقل في آخر الموسوعة عن العمارة باعتبارها نتاجًا حضاريًّا.
وبقدر ما يبدو هذا الأمر بديهيًّا من وجهة نظر عامة إلا أنه يغيب أو يكاد في خضم الدراسات المختلفة المتعلقة بالعمارة. إن النظر للعمارة باعتبارها منتجًا حضاريًّا يسهل كثيرًا من فهمها مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى بناء عمائر تلبي احتياجات الناس على مختلف الأصعدة. ولذلك.. لفهم العمارة في سياقها الصحيح يجب دراسة الحضارة قبل دراسة العمارة. ولنا في العمارة الغربية بمختلف عصورها ومبانيها ومسمياتها أوضح مثال. فبدون فهم التاريخ اليوناني القديم وسوسيولوجيا المدن - الدول الإغريقية من الصعب فهم عماراتها.
يصعب فهم مغزى ما تسميه كلاسيكيات تاريخ العمارة «أنظمة العمارة اليونانية» في قواعد وأبدان وتيجان أعمدتها الثلاثة، فإذا أردت فهم تلك الأنظمة فابحث عن سوسيولوجيا القوم الذين بنوها.
وفي السياق ذاته لا يمكن فهم ملعب الكولوزيوم (معناه اللغوي في اللاتينية يعني الضخامة) والحمامات وسائر مباني روما القديمة بدون فهم المجتمع الروماني سوسيولوجيا، والحال ذاته ينطبق على العمارة القوطية التي بلغت الذروة شكلًا ومضمونًا في هيمنة الكنيسة على مفاصل الحياة في أوروبا القرون الوسطى.
في هذه الحقب التاريخية اختلفت العمائر باختلاف الحضارات. ولعل أهم ما ميَّز العمارة في هذه الحقب هو في جوهرها. لقد بقيت هذه العمائر تعبّر عن جوهر مجتمعات تلك الحقب. لقد كانت صورًا فيزيائية من الحجر والرخام؛ لما عاشته تلك الحضارات ضمن سياقاتها الثقافية والدينية التي عاشت وفقها. لقد كانت مواضيع تلك العمائر على ارتباط وثيق بين المجتمع والمؤسسة.
لقد كانت عمائر تعبِّر عن الحالة الاجتماعية بامتياز. كما أنها تعبير جليّ عن دور المؤسسة (مدنية إغريقية، جمهورية رومانية، كنيسة قوطية) في فن العمارة. هكذا احتفظ جوهر هذه العمارات بأصله.
أما اختلاف أشكال (صور، هيئات) هذه العمارات عن بعض، فيستحضر مفهوم الصورة عند أرسطو. فقد كان الجسد الإنساني هو مرجع ووحدة بناء العمارة الإغريقية، وكانت قيم الجمهورية هي الصورة التي عكستها العمارة الرومانية، فيما كان احتلال السماء هو ما جعل الكنيسة تسيطر على أتباعها عبر كاتدرائياتها الفارعة الطول.
يُحيلنا مفهوم الصورة ذاك في سياق فن الرسم الحديث إلى صورة البورتريه وصورة اللاندسكيب (مع شديد الاعتذار للغتنا). هذان المصطلحان ليسا فلسفيَّين، لكنهما استخدما للتفريق بين الصورة العمودية والصورة الأفقية. البورتريه هو تصوير الوجوه في لوحة عمودية، أما اللاندسكيب فهو تصوير المناظر الطبيعية في لوحات أفقية.
والانتقال من رسم البورتريه إلى اللاندسكيب واكب تطور فن الرسم في أوروبا منذ عصر النهضة إلى الآن.
وبإمكاننا هنا استخدام هذين النوعين من التصوير للمقارنة بين العمارة الغربية والعمارة الإسلامية. هذا ما ستكون لنا معه وقفة في مقالات قادمة.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل