لا أعتقد أن مصدرا للثقافات قد غزا العالم أجمع على الأقل خلال الخمسين عاما الماضية إن لم يكن أكثر مثل الثقافات الأمريكية لما تملكه من هالة وآلة إعلامية كبيرة وسباقة منذ وقت طويل، التي كانت وفي ظني ما زالت تؤثر بشكل كبير على مختلف أصقاع العالم حتى مع من يقاومون تلك الثقافات الدخيلة عليهم، فقصات الشعر واللبس والبرجر والكاتشاب وعضلات البطن وتمارين النادي وأفلام الأكشن والاستعراض ومهارة قيادة السيارات والشاحنات والدراجات النارية والتخييم وتسلق الجبال وغيرها من الثقافات السلبية والإيجابية كانت مصدرا قويا تصدّرها أمريكا للعالم بشكل قوي ومركّز وواضح. هناك العديد من المجتمعات تقبلتها بشكل متباين إما بقبول كامل أو جزئي أو رفض على مضض أو رفض قاطع، والأخيرون كانوا قلة قليلة. هناك من تقبلوها عن طريق الانسلاخ والازدراء من ثقافاتهم واعتبارها بديلا لها، بل والتقليل منها وأنها ثقافة بائدة عفى عليها الزمن ورمز من رموز التأخر والتخلف، بل وأصبحوا كالجنود الذين يطالبون بإحلال هذه الثقافات والدفاع عنها والمطالبة بتطبيقها كنوع من التقدم والانفتاح إلى العالم الأكثر تطورا وتقدما. وهناك من اختاروا ما يناسبهم ويفيدهم ولا يتعارض مع ثوابتهم ومبادئهم السليمة فاستفادوا من السمين وتركوا الغث فلا ضرر ولا ضرار، فائدة بدون خسائر ولا تنازلات. أما الصنف الأخير فهو من كان عكس الأول الذي قاتل بجسارة ضدها كلها دون التفرقة عن السلب والإيجاب منها فهو ضدها على طول الخط، بل وضد كل دخيل وجديد عليه بل يعتبر ذلك انتقاصًا من ثقافته وكأنها ناقصة تحتاج إلى ما يكملها. حقيقة لستُ مع النوع الأول ولا الأخير، بل إني من الوسطيين الذين يأخذون ما ينفعهم ويتركون وراءهم ما يضرهم، فما لا يتعارض مع قيم الدين والأخلاق مرحبا به وما يتفق مع الصحة والسهولة والتنظيم واختصار الزمن أيضًا مرحبا به، وسوى ذلك لا مرحبًا ولا أهلًا. أتذكر تصريحًا لمسؤول فرنسي حين بدأت ثقافة البرجر الأمريكي الزحف باتجاه أوروبا وبدأت مظاهر السمنة تظهر على الأوروبيين والذين «يتميزون» نعم يتميزون بقلة الأندية الرياضية عندهم نظرًا لقلة البدانة وكثرة الرشاقة، فقال تصريحًا شهيرًا: «مرحبًا بالبرجر الأمريكي ولكن جانب السلطة الفرنسية»، والمقصود هنا أن السلطة الفرنسية الشهيرة هي الطبق الرئيسي أما البرجر فهو الطبق الجانبي، ويقصد أننا نرحّب بالثقافات الجديدة والدخيلة، ولكنها ستكون بشكل ثانوي وليس رئيسيًّا. مبدأ التعايش مطلوب ليس مع البشر بل مع ظروف الحياة والبيئات المختلفة، ومنها الثقافات، فقبولها بالمطلق أمر خاطئ ورفضها بالمطلق كذلك، أما التوازن بينهما فأمر جيد؛ لأننا نعيش بين الأفضل والأسوأ، وبالتالي نحتاج للرفض والقبول في وقت واحد.
وحتى ألقاكم الأسبوع المقبل، بإذن الله، أودعكم قائلًا: (النيات الطيبة لا تخسر أبدًا).. في أمان الله.