لا يعني التأمل أن نقطع علاقتنا بالعالم بل بالعكس، أن نقترب منه أكثر كي نفهمه، ونحبه ونغيره، فهو وسيلة يستطيع كل شخص أن يستخدمها كي يزرع الهدوء ويتذوق طعم السعادة، وطريقة للعيش تفتح لنا أبوابا موصدة وتقودنا إلى عوالم لم نكتشفها من قبل، لكنها كانت دوما في دواخلنا، فهو ببساطة حالة من الوعي الكامل باللحظة وبكل ما هو موجود حولنا، المكان والأشياء والأصوات، أن ندعها تتشربنا لنصير جزءا منها، أو ليصير كل ما حولنا جزءا من وجودنا، وأن نعي في الوقت نفسه كل ما يحدث بداخلنا، تنفسنا ونبض قلبنا وتوتر عضلاتنا ووضعية جسدنا، وأن نراقب أيضا نهر أفكارنا ومشاعرنا الذي لا يكف عن الجريان والتبدل، دون أن نحاول تغييره أو الرد عليه، وحين نعيش حالة الوعي الكامل للحظة الحاضرة سيخفف ذلك من معاناتنا ويزيد ابتهاجنا، فأن نتأمل يعني أن نتوقف عن الفعل، عن الحركة، عن البلبلة، ننسحب قليلا، نبتعد منفردين عن العالم، سيبدو لنا الأمر غريبا في البداية، فهناك فراغ من الحركة، وشيء ما ينقصنا، هواجسنا والأشياء التي اعتدنا القيام بها، ولكن فيما بعد سيظهر ارتياح آت من هذا الفراغ، فالأمور في دواخلنا لا تجري كما في الخارج، حيث تتمسك عقولنا بعدد من الأشياء والمشاريع أو القيام بفعل ما، أو التفكير بموضوع معين، ففي زمن الضغوط الحثيثة والتنبيهات المتعبة، يصبح التواصل مع ذواتنا مهجورا، بينما كل ما في خارجنا أسهل وأكثر وضوحا في الوصول إليه، وتبقى المساحات في دواخلنا بلا طرق معبدة، ولهذا فقد يعرضنا التأمل للقلق والمعاناة حين نواجه هذا الفراغ، فهو يواجهنا بما يجعلنا نتألم ونحاول تجاهله بالتفكير بشيء آخر، أو الانشغال بمكان ما. ربما نظن بأنه يكفينا أن نجلس ونغلق عيوننا، لكن الأمر ليس كذلك، فهي البداية فقط، التي لا بد منها لكنها ليست كافية. ولكن لا بد من البدء بأن نتعلم كيف نبقى حاضرين هنا، على بعد خطوة من العالم، هكذا ونحن جالسون وعيوننا مغمضة نحاول الإصغاء لاختلاجاتنا، صامتين دون حركة لبرهة من الوقت، إلى أن يأتي ذلك الهدوء الذي يغطي ثرثرة روحنا الداخلية، بما يكفي لنرى بوضوح أكثر، دون إصرار أو رغبة بأن يتحقق الأمر فورا، بل نتركه يأتي تلقائيا من دواخلنا. فالوعي الكامل ليس حالة فراغ وليس حالة تفكير، هو أن نتوقف كي نتواصل مع تجربة العيش الداخلي، ونراقب طبيعة علاقتنا مع هذه التجربة، وطبيعة حضورنا في هذه اللحظة، إنها ما يحدث الآن إذا قمتم بالانتباه وأنتم تقرأون ببطء هذه الأسطر إلى أنكم تتنفسون، وتدركون أحاسيس أجسادكم، والانتباه إلى وجود أشياء أخرى في ساحة بصركم سوى هذه الحروف، إلى الأصوات حولكم، إلى الأفكار التي تأخذكم لأماكن أخرى، أو تهمس لكم بالثناء على ما تقومون بقراءته أو نقده، الوعي الكامل هو هذه اللحظة التي تتهيأون أثناءها للانتقال بأعينكم للسطر القادم، تتوقفون وتراقبون تهيؤكم الداخلي بدلا من القيام بذلك غفلة، حالة الوعي الكامل هي أن تبتكروا فضاء صغيرا كي تروا ما تفعلون مهما كان الأمر بسيطا، لكنه سيكون مفيدا في لحظات أخرى، والأمر يشبه ما يقوله الشاعر جوته، الروح لا تنظر للأمام ولا للخلف، فالحاضر وحده هو موطن سعادتنا.