[email protected]
إذا كان تعريف العمارة يعني جردًا للأبنية التي بُنيت في حقبة تاريخية محددة في بقعة جغرافية محددة، فإن تعريف ابن خلدون للعمارة والعمران عمومًا هو القول الفصل في هذا الخطاب. يربط ابن خلدون في مقدّمته ربطًا وثيقًا بين العمران البشري بمختلف صوره والدولة، فمتى وُجدت الدولة وُجد العمران، وفي غياب الدولة لا وجود للعمران. هذا التعريف يكاد يكون مطابقًا لمفهوم الدولة الإسلامية وارتباط العمارة بها، وهو ما ستكون لنا وقفة معه في مقالات قادمة إن شاء الله.
غير أن ارتباط العمارة بالدولة يستدعي البحث في مفهوم الدولة ذاته، في نسبة العمارة للحضارة بمقال سابق، تم الربط بين فكرة الاستقرار طويل الأمد في بقعة جغرافية معينة، وبين ازدهار فن العمارة، وقد كانت أوروبا بما تعاقب فيها من حضارات وعمارات أوضح مثال على ذلك، في هذه الحضارات قد يتطابق مفهوم الدولة مع مفهوم الحضارة، حيث يمكن استخدام أحد المصطلحين نيابة عن الآخر، ولأن العمارة تابعة للدولة أو الحضارة فإن صورتها تتأثر حتمًا بجوهر الدولة، بطبيعتها، بتركيبها الاجتماعية، بأساس وجودها، وهياكلها الاجتماعية والدينية ومنشئها، ووسائل اقتصادها.
ومن هنا اختلفت العمارة من قوم لقوم، ومن دولة لدولة، ومن حقبة تاريخية لحقبة عبر الزمن، لكن يا تُرى هل وجود الدولة ضرورة حتمية لازدهار فن العمارة؟ هنا يأتي مفهوما الصورة والجوهر للإجابة عن هذا السؤال. ربما كانت شبه القارة الهندية (الهند) أوضح مثال في هذا السياق.
تُعتبر العمارة الهندوسية حالة خاصة في تاريخ العمارة من عدة أوجه. فبالرغم من تعدد الدول والسلالات الحاكمة التي تعاقبت على حكم شبه القارة إلا أن المجتمع الهندوسي بقي مجتمع قرية أكثر منه مجتمع دولة ذات مدن متعددة.
إن معظم مدن الهند تعود إلى فترات متأخرة من تاريخ الهند. لم تكن الدولة في الهند مفهومًا جامعًا لتابعيها أكثر من كونها مناطق نفوذ اسمي لسلالات حاكمة، أو لزعماء قبليين أو لطوائف دينية مهما صغرت. لم تعرف الهند صورة المدينة - الدولة، كما هو الحال عند الإغريق، ناهيك عن فكرة الجمهورية عند الرومان. وبالرغم من ظهور امبراطوريات ضخمة في تاريخ الهند، مثل امبراطورية موراي، وامبراطورية جوبتا منذ القدم، إلا أن العمارة في الهند بقيت عمارة مناطق جغرافية، وزعامات محلية، ومجتمعات قروية أكثر من كونها عمارات دول، وربما كانت الأرواحية وإضفاء القداسة على كل ما دبَّ على وجه الأرض، وقدرة الهندوسية الاستثنائية على امتصاص وتحوير كل معتقد جديد أو فكرة ما؛ لتكوين رابطة صلبة بين مفهوم الدولة وأفرادها عائقًا أمام تكوين امبراطوريات ضخمة في تلك الأرض الشاسعة ذات الموارد الطبيعية الوفيرة.
لقد حبَّت الجغرافيا الهند بمقوّمات فريدة جعلت منها إحدى أكثر مناطق العالم اكتظاظًا بالسكان واستقرارًا بشريًّا غاية في القِدَم، ومع ذلك فإن هناك بونًا شاسعًا بين تلك المعطيات الجغرافية، وبين فكرة الدولة ككيان سياسي اجتماعي اقتصادي يجمع بين كافة أفراده.
لقد بقي المجتمع الهندوسي مجتمع قرى لا مجتمع مدن، وهنا تأتي العمارة الهندية لتعبّر عن ذلك أبلغ تعبير.
في المعابد الهندوسية، لا مكان لفكرة الفراغ الجامع للناس، المعبد الهندوسي هو عمل أقرب ما يكون إلى الإعجاز في النحت أولًا وأخيرًا على أسس رياضية مستمدة من الرياضيات الهندوسية ومشحونة برمزية دينية.
المعبد الهندوسي في هيئته وتفاصيله، وفي الجهد الذي يُبذل في قطع الحجارة من جبال وتحويلها إلى ما يُشبه أعمالًا ضخمة من النحت يبقى حالة خاصة في العمارة وارتباطها بأصحابها. هذه الحرفية الماهرة في نحت الحجر المستقلة تمامًا عن أي وجود للدولة تحوَّلت بوجود الدولة (في عهد سلاطين دلهي وفي عهد المغول) إلى واحدة من ألمع فترات العمارة الإسلامية وارتباطها بالدولة.
هكذا تتحوَّل العمارة في سياقات المفاهيم الكبرى التي تسيرها.أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل