وردت في كتب الحديث والسِّيَر حكاية لطيفة للصحابي الجليل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما ولَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أميرًا على الجيش في غزوة ذات السلاسل، وفيهم أبو بكر وعمر «رضي الله عنهم جميعًا».
فوقع في نفسه أنه ربما كان مقدّمًا عليهما في المنزلة عند رسول الله، فأتى النبي -عليه الصلاة والسلام- وسأله: «أي الناس أحبّ إليك؟». فأجاب: «عائشة»، فقال عمرو: مِن الرجال؟ قال: «أبوها»، فسأله: «ثم مَن؟» قال: «عمر بن الخطاب»، فكان عمرو يسأل: ثم مَن؟ حتى عدَّ رسول الله رجالًا، فيقول عمرو: فسكتُّ مخافة أن يجعلني في آخرهم!
كم من المرات كنا مثل عمرو بن العاص، وظننّا جهلًا منا أننا نحظى بمكانةٍ عليَّة عند فلانٍ أو فلان وتفاجأنا بالعكس؟ كم من المرات ظننّا أن العلاقة التي تربطنا بفلان علاقة قوية يعوّل عليها، ثم تفاجأنا بهشاشتها وانكسارها عند أول اختبار؟
كم من المرات ظننّا أننا نستحق كذا وكذا من انتصار أو ترقيات ومناصب أو هدايا أو امتيازات، ثم انصدمنا بأنه لا شيء من ذلك حدث لنا أو كان من نصيبنا؟
في رأيي أنها ليست مشكلة الطرف الآخر، سواء كان شخصًا أو جهة ما، بقدر ما نتحمّل نحن المسؤولية؛ بسبب رفع سقف توقعاتنا وشعورنا العالي بالاستحقاق؛ ما جعلنا ننفصل عن الواقع ونبني توقعاتنا تلك لتعطينا شعورًا بالرضا -المؤقت والزائف- حتى تأتي ساعة الحقيقة..!
وكلما رفعنا سقف توقعاتنا عاليًا، كان السقوط مدوِّيًا وموجعًا.
وكلما اتسعت الهوَّة بين المتوقع والواقع زادت مساحة خيباتنا وآلامنا.
وحتى نخفف من تلك الصدمات والخيبات، علينا أن نعرف ذواتنا حق المعرفة، دون أن نرفعها فوق قدرها أو نبخسها حقها، وأن نكون صادقين مع أنفسنا دون مجاملة حين نجيب عن السؤال: هل أستحق ذلك؟ أم ما زال عليّ بذل المزيد للوصول لتلك المكانة وذلك الاستحقاق؟ ولا تصدّق كل مَن قال لك: أنت تستحق أفضل من ذلك، أو أنت أفضل من فلان، وأولى بتلك الترقية أو المنصب.
وعلينا أن نتذكر أنه ليس شرطًا أن يرانا الآخرون كما نرى أنفسنا، بل غالبًا هم يروننا بشكل مختلف، قد يكون أفضل أو ربما أسوأ مما نعتقد. وفي المقابل لا بد من أن نكون أكثر حكمةً وتعقّلًا في حكمنا على الناس من حولنا، فلا ننساق خلف عاطفتنا وانبهارنا بهم أو نندفع جرّاء كلمة طيبة قالوها لنا أو موقف جميل بدرَ منهم تجاهنا، فنرفع سقف توقعاتنا منهم، بل ونطالبهم بأن يكونوا ملائكيين أو أبطالًا أو عاشقين كالصورة التي رسمناها لهم وتخيَّلناها عنهم.
هي ليست دعوة لتقزيم طموحاتنا وتوقعاتنا واستحقاقنا، ولكنها دعوة لنكون صادقين مع أنفسنا، واعين بواقعنا، ومستعدين لبذل الجهد والسعي الحثيث والتضحية لتحقيق تلك التوقعات، ونيل ذلك الاستحقاق بكل جدارة.