صحراء جليدية على مد البصر، هدوء وصمت يخيم على أجواء يندر فيها وجود البشر.. حيوانات وكائنات قطبية فقط من تسكن المكان الذي ظل بعيدًا عن أي صراعات في أغلب حقب الزمان.
عُرف القطب الشمالي طيلة التاريخ بأنه منطقة هادئة خارج لعبة النزاعات والحروب، بفضل المناخ القاسي والأجواء المتجمدة غير الملائمة للعيش.. لكن السنوات الأخيرة كانت مؤشرًا على أن جليد هذه المنطقة قد يغلي بفعل صراع محموم بين بعض الدول، يقترب أكثر من أي وقت مضى.
القطب الشمالي.. المنطقة التي كانت سالمة
تغطي الدائرة القطبية الشمالية نحو 6% من سطح الأرض، وتبلغ مساحتها أكثر من 21 مليون كيلومتر مربع، 40% من هذه المساحة عبارة عن أرض تنتمي إلى بلدان مختلفة، وفقًا لموقع "geographical".
تطل على القطب الشمالي 8 دول: روسيا، وأمريكا "ولاية ألاسكا"، وكندا، والدنمارك "جزيرة جرينلاند"، والنرويج، والسويد، وأيسلندا، وفنلندا، والتي شكلت مجلس القطب الشمالي عام 1996 لتمثيل مصالح هذه الدول، والدول المراقبة والشعوب الأصلية.
جميع هذه الدول لها أراضي داخل الدائرة القطبية الشمالية، بما في ذلك الجروف القارية التي تعبر أسفل مياه المنطقة، ولكل دولة الحق في المطالبة بامتيازات إقليمية على أجزاء من القطب الشمالي، وفقًا لمنظمة السلام العالمي.
ومع ذلك فإن العديد من هذه المطالبات الإقليمية كانت متناقضة، ما أدى إلى نشوب نزاعات إقليمية وسط تزايد التوترات بشكل كبير في المنطقة.
تسبب تصاعد التوترات بين دول القطب الشمالي في اعتقاد عديد من المحللين بأن المنطقة يمكن أن تكون بداية لحرب باردة، خاصة بعدما أنشأت عملية الذوبان ممرات شحن جديدة، وفتحت ممرات موسمية قائمة لفترة أطول ووفرت المزيد من الفرص لاستخراج الموارد الطبيعية.
تغير المناخ.. شرارة الصراع في القطب الشمالي
أعاد تغير المناخ رسم الخريطة الجيوسياسية للقطب الشمالي، يتسبب ارتفاع درجات الحرارة في ذوبان التربة الصقيعية والجليد البحري في الدائرة القطبية الشمالية بمعدل ينذر بالخطر.
يفقد القطب الشمالي 13% من الجليد البحري كل عقد، وهو معدل يقول الخبراء إنه إذا استمر يمكن أن يجعل القطب الشمالي خاليًا من الجليد في الصيف بحلول عام 2035، وفقًا لصحيفة "politico" الأمريكية.
من المفترض أن يكون ذلك مدعاة للقلق في جميع أنحاء العالم بسبب العواقب الوخيمة لذوبان الجليد على الكوكب بأكمله، إلا أنه يبدو أن مصائب قوم عند قوم فوائد.. فبعض الدول تعتبر هذا فرصة للوصول إلى الموارد الطبيعية وطرق التجارة الجديدة التي ستربط بين القارات وتقلل زمن الرحلات البحرية.
باحثون: تغير #المناخ يؤثر بشدة على #القطب_الشمالي #صحيفة_اليوم #مستقبل_الإعلام_يبدأ_من_اليوم https://t.co/KAJOGBNgCk pic.twitter.com/DkpYlV1LSp— صحيفة اليوم (@alyaum) August 11, 2022
ثروات القطب الشمالي.. موارد تتعطش إليها القوى العالمية
تشير التقديرات إلى أن القطب الشمالي يحتوي على 90 مليار برميل من النفط لم تٌكتشف بعد، هذا يعادل نحو 6% من احتياطيات النفط المعروفة في العالم، وقرابة 110% من احتياطيات النفط الروسية الحالية، أو 339% من احتياطيات الولايات المتحدة، وفقًا لموقع "visualcapitalist" المتخصص في الإحصائيات.
يوجد في القطب الشمالي ما يقدر بـ1669 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، أي ما يعادل 24.3% من الاحتياطيات الحالية المعروفة في العالم، وهذا يعادل 500% من احتياطيات الولايات المتحدة، أو 99% من احتياطيات روسيا، أو 2736% من احتياطيات الغاز الطبيعي في كندا.
إضافة إلى كل هذا توجد عدة معادن في القطب الشمالي، تشمل: الذهب والماس والنحاس والحديد والزنك واليورانيوم، فضلًا عن العناصر النادرة التي تُعد مفتاح الصناعات المهمة القائمة على التقنية، إلى جانب الثروة السمكية الهائلة التي تحتويها المياه.
روسيا.. الدب الجائع
تتنافس الدول الآن من أجل السيطرة العسكرية والتجارية على هذه الأراضي التي يمكن الوصول إليها حديثًا، واشتدت المنافسة أكثر حدة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
على مدى العقدين الماضيين، هيمنت روسيا على هذه المعركة من أجل القطب الشمالي.. أقامت أسطولها من كاسحات الجليد والسفن والغواصات ذات القدرات النووية، فضلًا عن تطوير المزيد من عمليات التعدين وحفر آبار النفط على طول ساحلها على القطب الشمالي الذي يبلغ طوله 15000 ميل، إضافة إلى ذلك فإنها تغازل دولًا غير قطبية للمساعدة في تمويل تلك المساعي، مثل الصين.
ساهم الغزو الروسي لأوكرانيا من تأجيج هذا الصراع، فبعد الغزو مباشرة قال أعضاء مجلس القطب الشمالي إنهم سيقاطعون المحادثات القادمة في روسيا، تبع ذلك زيادة التواجد العسكري من روسيا والدول الأخرى في المنطقة المتجمدة تحسبًا لأي شيء.
التواجد العسكري بالقرب من القطب الشمالي
في السنوات الأخيرة، كثف حلفاء الناتو وروسيا التدريبات العسكرية في المنطقة، وأجرت السفن الحربية الصينية والروسية مناورة مشتركة، بينما رفعت النرويج مستوى التأهب العسكري.. لكن الغرب يتخلف عن روسيا في الوجود العسكري، وفقًا لوكالة رويترز.
منذ عام 2005، أعادت روسيا فتح عشرات القواعد العسكرية في القطب الشمالي من الحقبة السوفيتية، وحدَّثت أسطولها البحري، وطورت صواريخ جديدة تفوق سرعة الصوت مصممة للتهرب من أجهزة الاستشعار والدفاعات الأمريكية.
يقول خبراء في القطب الشمالي إن الغرب سيستغرق 10 سنوات على الأقل للحاق بالجيش الروسي في المنطقة، إذا اختار ذلك.
أظهرت الولايات المتحدة ثقتها في قدرتها على ردع هجوم نووي روسي أو صيني، لكن الرؤية غير الكافية في القطب الشمالي يمكن أن تحد من وقت استجابة الولايات المتحدة في أي أزمة.
في الوقت الحالي يميل التوازن العسكري في القطب الشمالي بشدة نحو روسيا، يفوق عدد القواعد الروسية داخل الدائرة القطبية الشمالية عدد قواعد الناتو بنحو الثلث، وفقًا للبيانات التي جمعها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
تمتلك روسيا الآن 11 غواصة قادرة على إطلاق أسلحة نووية بعيدة المدى لاستخدامها في حرب نووية شاملة، 8 منها في شبه جزيرة كولا في القطب الشمالي، أما حلف شمال الأطلسي لديه 22 بين الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة.
وتسلمت البحرية الروسية غواصة جديدة يمكنها حمل طوربيد مزود بأسلحة نووية مصمم للتسلل عبر الدفاعات الساحلية من خلال السفر على طول قاع البحر.
ويفوق أسطول كاسحات الجليد الروسي عدد أسطول الدول الأخرى بشكل كبير، وتظهر البيانات الرسمية أن لديها 7 كاسحات جليد تعمل بالطاقة النووية ونحو 30 تعمل بالديزل.. بينما لدى كل من الولايات المتحدة والصين كاسحتان للجليد تعملان بالديزل.
#اليوم
لأول مرة .. أمريكا تعين سفيراً لـ #القطب_الشمالي
https://t.co/qMw3VRO5K3— صحيفة اليوم (@alyaum) August 28, 2022
الصين على خط الصراع.. القادمون من الخلف
تعمل الصين بلا هوادة على تكثيف وجودها في أقصى الشمال ورغم أنها لا تملك حدودًا مباشرة على القطب الشمالي، فإنها تعتبر نفسها دولة شبه قطبية.
في عام 2013 أصبحت دولة مراقبة في مجلس القطب الشمالي، وفي الوقت الحالي، تتبع الصين نهج القيام بأفضل ما يمكنها فعله.. الاستثمار هنا وهناك في مشاريع تبدو متباينة، ولكنها في الواقع مترابطة بعمق.
وتعتبر الصين القطب الشمالي منطقة عالمية مفتوحة للجميع، وهو أمر مختلف تمامًا عن وجهة نظر الدول الـ8 الذين يرون أنفسهم نادٍ يخضع لحراسة مشددة، بينما تبني الصين محطات أبحاث وتمول مشروعات واستثمارات في القطب الشمالي، ويُنظر إلى كل ذلك على أنه مقدمة لوجود أكبر.
دول الناتو تتحرك
لعقود من الزمان تمسك حلفاء الناتو في القطب الشمالي بالاعتقاد بأن النزاعات مع روسيا لن تمتد إلى منطقتهم.. مع تحديد ميزانيات الدفاع الإجمالية.. الآن يغير حلفاء الناتو والقطب الشمالي موقفهم.
منذ الغزو الروسي لأوكرانيا تعهدت كندا بزيادة الإنفاق العسكري بنحو 10 مليارات دولار، ويقول الجيش الأمريكي إنه يخطط لتحديثات كبيرة في قاعدته العسكرية في جزيرة جرينلاند، فضلًا عن تركيب نظام رادار بعيد المدى يسمح للأقمار الصناعية والرادارات الأرضية الأخرى بالعمل معًا في ألاسكا والتي تقول إنها ستكون قادرة على التعامل مع الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت في التكوينات المستقبلية.
بدأت السويد وفنلندا الاستثمار في قدرات المراقبة والردع والمعدات العسكرية بما في ذلك الطائرات حتى تتمكن قواتهما الجوية من القتال جنبًا إلى جنب مع حلفاء القطب الشمالي في الناتو.
خصصت الدنمارك نحو 200 مليون دولار لتحسين قدراتها العسكرية في القطب الشمالي، بما في ذلك الأقمار الصناعية وطائرات المراقبة دون طيار القادرة على الطيران لمدة تصل إلى 40 ساعة.