يتساءل البعض عن ذلك الأثر القوي الذي اخترق الفنون، أبفعل قوة طغيان التقنية على الحياة، فقد ضخت الأسواق التجارية العالمية أدبا تجاريا لمتطلبات التسويق، ويحمل بذرة التفاهة في داخله، وينطبق هذا الكلام على جميع فروع الأدب وفنونه، وأصبحت صناعة النجومية إحدى أهم الوظائف التي يقوم بها الأدب من خلال ربطه بمختلف الأسواق التجارية. ولكن - من جانب آخر- إن الأدب الجيد والعميق هو ما ظل يقاوم بقوة كل أشكال التسليع.
وإذا ما اخترنا الحديث عن فن الرواية، للتدليل على ما نقول فإن ذلك له أسبابه المهمة، من ذلك أن عالم الرواية في ثقافتنا المعاصرة -كما أرى - هو ما يصنع الذاكرة البشرية، بناء على فاعلية المخيلة، هو ما يمدنا باللغة اللازمة في التعبير عن أدق مشاعرنا غورا في الروح مما يساعدنا على التواصل وفك العزلة، هو الذي يعلمنا كيف نبني هويتنا الفردية بناء على ثقافة الحوار مع شخصيات الرواية؟
وكما تعلمون - أيضا - بروز الفن الروائي في أوروبا ساهم مساهمة فعالة في انتشار الفردانية بالتوازي مع انتشار المطابع وإنتاج الكتب والصحف والمجلات، ومنذ ما يقارب مطالع القرن الثامن عشر الميلادي، راحت شخصية «دون كيخوت» لسرفانتس تخترق الوعي الأوروبي الأدبي والفكري والفلسفي، وتطبعها بطابعها من العمق باعتبارها الأيقونة التي تمثل انتقال المجتمع الأوروبي من «صفة الواحدية إلى صفة المتعدد» (فيصل دراج)، من الأزمنة التقليدية (الملحمية) إلى الأزمنة الحديثة (البرجوازية). وكل ما سوف يأتي لاحقا من ثقافة تتشكل في أوروبا، سيكون مدينا لهذه الشخصية، من قريب أو من بعيد.
كذلك لم يقتصر تأثير الفن الروائي على أوروبا فقط، بل انتقل بشكل سريع إلى باقي المجتمعات والشعوب، بالخصوص مع انتشار الاستعمار الأوروبي وانتشار ثقافته ذات البعد المركزي. وعلى هذا الأساس انتبهت الشعوب المستعمرة (بفتح العين) إلى الإمكانيات الكبيرة الذي يحتويها هذا الفن، وشكل لهم بالفعل خطاب مقاومة وإرادة، وأتاح لهم الفرصة أيضا في استعادة هويتهم التاريخية التي استلبت منهم بفعل هذا الاستعمار.
وقد رأينا لاحقا كيف استطاعت شعوب أمريكا اللاتينية، بعد انحسار المد الاستعماري، وبعد تراكم خبرات واحتكاك بالآخر الغربي أن تستعيد عاداتها وتقاليدها ولغاتها الشعبية المعبرة عن أصالتها من خلال السرد الروائي والقصصي، وبفضل كبار روائييها أصبحت رواية أمريكا اللاتينية تتفوق على نظيرتها الأوروبية وتؤثر عليها من العمق، وكأنها أرادت أن تنتقم من الاستعمار بالكتابة فقط، فأسماء كبورخيس، وماركيز، وخوزيه ساراماغو، وإدواردو غوليانو، وآخرون كثر، هم الأكثر انتشارا وتأثيرا عالميا في اللحظة الراهنة.
لذلك التفكير بهذا الأمر وخلاصته بالنسبة لوضعنا الثقافي الأدبي (محليا وعربيا)، يفضي إلى أمرين اثنين:
الأول: العالم العربي استقبل الرواية القادمة من أوروبا، منذ بدأت النصوص التنويرية للتنويرين العرب في القرن التاسع عشر بالتركيز على أمرين: الأول ربط فكرة التقدم بإزاحة ظاهرة الاستبداد عن الأفق الثقافي الإسلامي، وقد تباين الاهتمام بين هؤلاء التنويريين، البعض كالكواكبي يرى الاستبداد السياسي هو الوجه الآخر للاستبداد الديني، ولن تتاح معارف جديدة في الفكر والأدب إلا بإزاحتهما عن هذه الثقافة والمجتمع.
الثاني: أن البعض الآخر كأحمد فارس الشدياق في كتابه «الساق على الساق» الذي جاء بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات في أوائل القرن التاسع عشر، كان يتغنى بالحرية، وكان الشكل الروائي الذي توسل به الغناء هو الشكل الأدبي الذي أنتجته المجتمعات الحديثة الغربية. وهو المعبر عن روح العصر للمدينة الحديثة.