عندما كانت روسيا مغرورة بقدرتها العسكرية ومعجبة بقوتها الاقتصادية، خاصة مصادر الطاقة التي تعتمد عليها أوروبا في رفاهيتها، قررت أن هذا هو الوقت المناسب الذي تستطيع من خلاله إنذار أوروبا بالابتعاد عن حدودها وعدم التدخل في شؤونها أو الشؤون الأوكرانية التي يرون أنها جزء منهم، ومن هنا أراد فلاديمير بوتين بجنون عظمته أن يقدم لنفسه ولبلاده عملًا بطوليًّا ملفتًا منذ انهيار إمبراطوريته، فبدا ذلك جليًّا منذ اقتطاع شبه جزيرة القرم الإستراتيجية عام ٢٠١٤م.
لقد أزعجت أوكرانيا الكرملين بميلها للانضمام لحلف الناتو، بالإضافة إلى رغبتها في امتلاك أسلحة نووية، ساعدها في ذلك اندفاع الغرب إلى عزلها عن أصولها التاريخية والثقافية الروسية، والتقارب معها بشكل تدريجي وأسفرت عن بعض الاستفزازات الأوكرانية التي تدعمها أمريكا، وحسب المعطيات فإن بوتين كان يعتقد أن الاجتياح لن يطول إلا أن أهدافه تقلّصت بعد أن سقطت الأقنعة، وأصيب بالذهول من حجم ردة الفعل الأوروبية المعلنة، فخسر الرهان وهو يترنح تحت مدى العقوبات القاسية، خاصة وهو يرى أمريكا عدوه اللدود هو الذي يتزعم الحرب ضده بالوكالة، وهي التي تعمل على إسقاطه بسيناريو فخ مشابه كالذي حدث لهم في أفغانستان سابقًا!
والحقيقة فإن الحرب في أوكرانيا هي حرب روسية أمريكية، وكل طرف منهما يريد إنهاك الآخر واستنزاف قوته، وعينه على مصالحه ومكاسبه، ولا أظن أحدًا يعتقد أن الحرب ستنتهي بسرعة، على الرغم من المبالغات الإعلامية التي أوقعت بعض دول العالم بين الفقر المؤكد، والازدهار المحتمل؛ إذ لا فوائد بلا أضرار في مثل هذه الحالة التي يختلف فيها نظام المصالح عن نظام المحاور، ولذلك استمرت قنوات الاتصال مفتوحة بين واشنطن وموسكو، كان أقلها تفادي استخدام الروس التصعيد النووي، كما ذكر سوليفان أحد مستشاري الرئيس بايدن، حينما قال إن الإبقاء على الاتصال مع موسكو من مصلحة جميع الدول المتأثرة بهذا الصراع.
وإذا كانت أوكرانيا هي الخاسر الأكبر فإن أمريكا هي الرابح الأكبر بعدما عزلت أخطر الملفات وهو ملف الطاقة الذي دمرت أنابيبه كأبرز العقوبات التي تعتقد أمريكا أن الروس يعتمدون عليه كمصدر يغذي أوروبا وهو الأرخص والأقرب لهم، فاستفادت من مضاعفة أسعاره، كما خططت له القوى الأمريكية التي دائمًا تسعى إلى فتح أسواق جديدة لها، وتفكر أيضًا في استغلال مضيق بيرينج، والمحيط المتجمّد الشمالي منذ زمن.
وأخيرًا.. فكلما كانت الحرب مستمرة فمعظم التحليلات خاطئة، وروسيا قادرة على تجاوز الأزمة؛ نتيجة لما تملكه من ثروات طبيعية، وقنوات اتصال شرقية آسيوية، فضلًا عن جيشها الذي يقدّر بأكثر من ٥ ملايبن لم يشارك منه حتى الآن سوى مرتزقة من دول حليفة، وميليشيات فاغنر المعروفة.