[email protected]
في مقالَين سابقَين، خلصنا إلى أن الحضارة والدولة معطيان أوليَّان لازدهار العمارة، وهنا تأتي العمارة كتحصيل حاصل لكلا المفهومين. لكن هناك حضورًا فاعلًا للعمارة لا علاقة له بالحضارة ولا الثقافة - بالمعنى المتفق عليه في التاريخ الإنساني - في معظم أنحاء العالم.
العمارة التقليدية أو العامية مصطلح تم التعارف عليه عُرفًا وتقليدًا على أنه عمارة المجتمعات ما قبل إنشاء الدولة. وإذا ما تم الاتفاق ولو مبدئيًّا على هذا التعريف (بالرغم من تعدد مرادفاته)، فإن العمارة في كثير من أنحاء العالم، ومنها العالم الإسلامي تحديدًا، والجزيرة العربية والمملكة خصوصًا هي عمارة تقليدية بامتياز. والحديث عن العمارة التقليدية على ظهر الكوكب يُحيلنا إلى موسوعة أوليفر (PAUL OLIVER) Encyclopaedia of vernacular architecture of the world موسوعة العمارة (العامية) في العالم بأجزائها الثلاثة (متوافرة مجانًا بي دي إف) كأضخم وأشمل عمل في مجاله.
سوى ذلك، فإنه يندر التأليف في العمارات التقليدية حول العالم، وهذا مؤشر بالغ الدلالة في علاقة العمارة بالكتابة، وكأن هناك علاقة خفية بين ضرورة انتماء العمارة لحضارة أو دولة بعينها وتدوينها. وهذا يقودنا إلى العلاقة الوثيقة بين العمارة واللغة، فكما أن عمارة الحضارة والدولة هي العمارة المعترف بها رسميًّا من قبل المؤرخين، وهي ما يتم تدريسه في كليات العمارة، فإن ما يقع خارج نطاق هذين المصطلحين لا يدوَّن. إنه يبقى كاللغة العامية، محكية، لا تلتزم بالنحو والصرف، وغير مدوَّنة. هذه مقاربة بالغة الأهمية بين اللغة والعمارة، وهي تستحق مقالًا خاصًّا.
ومن الواضح أننا هنا بصدد الحديث عن مفاهيم معرفية في علوم الإنسانيات وعلم الاجتماع قبل الحديث عن العمارة.
ماذا عن عمائر الشعوب التي لم تعرف الحضارة ولم تقم فيها دول؟ ماذا عن شعوب الشمال القطبي، والقبائل المتناثرة في غابات الأمازون وأدغال أفريقيا وأرخبيل الجزر الهندوصينية؟ ماذا عن البدو الرحالة في السهوب الآسيوية، وماذا عن عمائر المجتمعات الجبلية المعزولة جغرافيًّا كالتبت وهندوكوش ومرتفعات الأنديز في أمريكا الجنوبية.
نحت الأسكيمو من الثلج بيوتًا لهم، تمامًا كما فعل كثير من قبائل البربر في شمال أفريقيا (مطماطة في تونس كمثال)، وتبدو قرى قبائل الدوجون في أكناف الجبال في مالي مشابهة لمثيلات لها في صحاري أمريكا ما قبل كولومبوس.
وفي غياهب مجتمعات الأمازون تبني القبائل البدائية عمائر من أشجار الغاب فريدة في العمارة كمساكن جماعية لكل أفراد القبيلة.
والحال ذاته ينطبق على مجتمعات القارة السمراء التي تتعدد عمائرها بتعدد قبائلها. وتعتبر مساجد الطين في دول الصحراء الكبرى، وهي تُعدُّ بالآلاف أعمالًا مدهشة في فن التكوين بالطين. وفي السهوب الآسيوية تأتي خيام البدو الرحّالة المقاومة للبرد والمقفلة تمامًا في أشكال لا حصر لها.
وتبقى إندونيسيا بجزرها وثقافاتها المتعددة حالة خاصة في تعدد أشكال عمائرها.
عمائر هذه الثقافات من حيث التصنيف المعماري لها كهيئات (أشكال)، ومحتوى ومعنى وتكوينات اجتماعية واستدامة على درجة عالية من التصنيف أين منها عمائر الدول والحضارات، ومع ذلك تبقى هذه العمارات مجهولة إلا للمختصين في حقول الدراسات الإنثروبولوجية. هذه العمارات تُعيد طرح مفهوم العمارة للنقاش من جديد.
هكذا أصبحنا أمام ثلاث حالات من العمارة كنتاج لمعطيات تاريخية وجغرافية بعينها. هذا التصنيف في غاية الأهمية؛ لأنه سوف يساعد المهتمين بالعمارة، كلًّا في مجال تخصصه على النظر للعمارة في سياقها الخاص بها الذي أنتجها.
ربما كانت العمارة الإسلامية على وجه التحديد هي المجال المعنيّ بهذا التصنيف؛ لكونها تشمل هذه السياقات، وما لم يتم الفصل بينها كلّ في سياقه، فإن ذلك يؤدي إلى اختلاط المفاهيم، وهذا ما ستكون لنا معه وقفات مفصَّلة في المقالات القادمة إن شاء الله.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل