يمكن الكلام في مجتمعنا السعودي عن نظامين للقراءة والكتابة، واحد يخص النظام التعليمي بمؤسساته المختلفة، وآخر يخص المجتمع بمختلف تقاليده وعاداته. لكن هذا التقسيم الثنائي لا يعكس الواقع، هو مجرد تقسيم إجرائي، وإلا فإن هناك قراءات متعددة بتعدد القراء والكُتَّاب أنفسهم، سواء كان ذلك تحت تأثير النظام التعليمي أو تحت تأثير التربية الاجتماعية، والتداخل بين الاثنين في إنتاج أنواع عديدة من القراءات، لا حصر لها، ولا يمكن استقراؤها.
بيد أن الأهم هو مسار تربية المخيّلة عند مَن يقع تحت تأثير سلطة النظام الجامعي، وهو على وشك أن يكون ناقدًا مختصًّا في مجال الرواية. ضمن هذا السياق هناك دوافع عديدة تجعل الفرد يُقبل على قراءة الروايات والشعر، وأيضًا يُقبل على كتابتهما.
وبالنسبة لهذا الناقد، هناك صورتان ترتبطان بتمثلاتنا عنه، الأولى: إما أنه يملك تجربة في القراءة تتغذى عليه مخيلته، ويكتسب من خلالها وعيًا ذاتيًّا يدرك فيها تمامًا مدى أثر العلاقة التي يقيمها بين ذاته وبين قراءة الروايات، وبالتالي إذا ما أقبل على دراسة الرواية من منظور الدرس المنهجي تكون الإضافةُ الحقيقيةُ متميزةً له وللمشهد الأدبي المحلي، وهناك نماذجُ كثيرةُ ضمن هذا الإطار، واجتهاداتُها معروفةٌ ومحل تقدير واحترام.
أما الصورة الأخرى فهي ذاك الذي لا يملك تجربة قرائية حتى وإن وجدت، فهي لا تتعدى النمط التقليدي السائد عند عموم الناس، أي أنه لا يملك دافعًا ذاتيًّا يحقق رغبة القراءة في داخله، ولا يزيح الغبار عن مرآة ذاته.
ومآلات هذه الصورة أنها لا تفضي بصاحبها سوى إلى مزيد من الهُوةَّ بين تذوّق النص الروائي وبين تشريحه بالدرس المنهجي.
ثيمة الحب تخترق أغلب الروايات السعودية، بل تكاد تصبح هي الثيمة الأساسية عند البعض من الروائيين كمحمد حسن علوان أو ليلى الجهني وغيرهما. لكن بصورة أقل.
شخصية عزيزة في رواية «غراميات شارع الأعشى» للكاتبة بدرية البشر هي السارد، التي تحكي قصص الحب في هذا الشارع أو الحارة، وهي في ذات الوقت جزء من هذه القصص، من خلال حبّها للطبيب المصري أحمد.
لا يحضر الحب في أفعال وأقوال الشخصيات إلا ليعبّر عن شيء آخر، إلا ليقول ما تريد أن تقوله الرواية بطريقة أخرى. فالمسألة هي كيف نبتكر الحب في الرواية وثقافتنا تفتقر إلى تجربته؟
لذا فإن الرواية تستعير ذاكرة الممثلات والأفلام المصرية كي يبدو منطق السرد معقولًا، فعزيزة دائمًا تتحرك وفق تأثرات هذه الذاكرة مثلما صنعت حين استلهمت من سيرة حياة «تحية كاريوكا» فكرة الزواج من «أبو فهد».
إذن لا توجد ذاكرة مكانية للحب، فتكون ذاكرة الأفلام هي البديل كإحدى التقنيات المستعارة. عند هذه النقطة تحديدًا تتضح ملامح الحمولة الثقافية للمكان من الخارج.
الحب المرتبط بالنساء في الرواية لا يأتي إلا كفعل إدانة ضد الرجل؛ لذا هي شخصيات نسائية مأزومة بفعل الثقافة الذكورية للرجل. وفعل الإدانة للرجل يسري مسرى الدم في عروق الرواية، ولا يفسر التحوّلَ السريع في سلوك الشخصيات من الحب إلى الكره تأثيرُ التدين مثلما شخصية سعد، أو التقاليد الاجتماعية مثلما شخصية فلوة. ما يفسّره هو انشغال الرواية بفعل الإدانة.
الرجال مدانون والنساء هن الضحايا، إلا شخصية الأب «أبو إبراهيم» يبقى بمعزل عن هذه الإدانة.
مثل هذه المعالجة تكاد تكون بنية راسخة في الخطاب الروائي السعودي، ليس بسبب الأسلوب الفني للرواية، وإنما للتصورات التي نحملها في أذهاننا عنها، وهذه مسؤولية الثقافة الاجتماعية كقراء من جهة، ومسؤولية ثقافة الفرد كروائي من جهة أخرى.
أخيرًا.. في الرواية مشهد عزيزة وهي تتلصص على ما يجري في شارع الأعشى من كوّة في جدار السطح، كان يمكن أن يكون رافعة يبني فوقها السردُ عالم الحب، ويحفر في المشهد دون الحاجة إلى توظيف هذا الحب حتى لا تتورط الرواية في قول الأشياء دفعة واحدة.
الرواية العالمية علَّمتنا عندما نريد أن نستحضر الحب لا نتكلم عنه، ونتحاشى أن نسجنه في ألفاظ اللغة.