في بادرة وفاء من هيئة الترفيه، شدا عدد كبير من الفنانين العرب، مساء الأربعاء الماضي، بأعذب الألحان تكريمًا لرمز الأغنية السعودية الخالد الراحل طلال مداح.
الصوت حقيقة فيزيائية ثابتة. في القرآن الكريم ورد الصوت في آيات كثيرة، وكثيرًا ما يسبق السمع البصر في دلالة عميقة على أهمية الصوت على البصر في حياة البشر. وفي الحياة العامة، حياة بلا صوت تعني الموات، حياة لا تُطاق، كما تثبت التجارب في معامل الصوت. وكما يقول المَثل: لا حياة لمن تنادي، فلا حياة بدون صوت.
والأرض في معظم ثقافات العالم شيء مقدّس، كما تجلّى في كثير من ثقافات العالم ودياناتها وآدابها شرقًا وغربًا. وعندما يقترن الصوت بالأرض ويجتمع الاثنان في رمز واحد فإننا أمام ظاهرة فريدة قد لا تتكرر.
اقتران الصوت بالأرض يُحيلنا إلى قراءات رمزية في غاية السمو. لنتخيل الأرض وقد شدت بأعذب الألحان صوتًا. هذا هو طلال مداح. عندما تسمع له فأنت تسمع لصوت يبدو من عذوبته ونقائه وصفائه وصدق مشاعره، وكأنك تسمع صوتا يتدفق من جوف الأرض، تماما كما تتدفق المياه العذبة من جوفها. عندما تستمع لطلال مداح تتخيّل نفسك واقفًا على شلال عذب للمياه يتساقط في غدير من المياه، وقد عكس لون السماء الصافية.
هذا هو مشهد الصورة في رائعته الموعد الثاني. وهل هناك صورة أبلغ وأسمى من هذه الصورة في ربط الصوت بصاحبه؟
عمارة الأرض حقيقة تاريخية وجغرافية منذ الأزل. وعمارة الأرض لا تتم بدون أناس ولا تجمع لأناس بلا صوت، فلا عمارة بلا صوت. بل إن الصوت وحده أحد أبرز المعالم الحضارية لشتى شعوب العالم. الصوت رمز حياة، رمز احتفال، رمز نمو وازدهار، رمز فرح. ولك أن تتخيل عندما تجتمع هذه الحمولات الثقافية في شخص رجل واحد.
للفنان الراحل ألقاب كثيرة وقائمة إبداعاته تطول، لكن ربطها بالأرض يبقى الراية الأكثر علوًّا في التعريف بالفنان ودوره في إرساء دعائم الأغنية السعودية.
الاستماع لطلال مداح ينقلك إلى عالم آخر من الوجود. استمع فقط إلى أولى أغانيه: وردك يا زارع الورد. إنك لتحتار هل تستمع إليها تتدفق عذبة من حنجرته الذهبية، أم هل تسمح لخيالك بأن يُبحر بعيدًا في معانيها. الورد، وهل هناك شيء من مخرجات الأرض أجمل من الورد؟ أليس الورد رمزًا للحب والسلام والجمال؟ والزرع، أليس فيه إشارة رمزية لخير الأرض وخصوبتها. وإذا كانت هذه أولى أغانيه فلك أن تتخيّل ما تلاها بدءًا برائعته الخالدة «وطني الحبيب» وصولًا إلى أيقونته مقادير. في كل أغانيه يتصدر صوت طلال المشهد الغنائي. الصوت يأتي أولًا ثم يتبعه اللحن فأوركسترا المجموعة.
هذه هي البصمة الفنية لصوت طلال التي تجعله يتصدر سباقه مع منافسيه: صوته، هذا هو صوت الأرض. ولأن الراحل عُرف بصدق مشاعره وعفويته ودفء عواطفه فقد أتى صوته ليعبّر عن كل تلك المشاعر الدفينة في نفسه تمامًا كما ينبع الخير من أعماق الأرض.
وتأتي سيرة الفنان انعكاسًا لذلك، ولك في نهاية تلك الحياة الفنية الحافلة بالعطاء دليل على ذلك. تشاء الأقدار أن يواجه ربه في مشهد نادرًا ما حدث في تاريخ الفن؛ ليربطه بالأرض أكثر فأكثر، وكأن ارتباطه بالأرض ارتباط أزلي. إنها المدينة التي شدا فيها الراحل بواحدة من أجمل أغانيه، كانت آخر محطة ترجّل فيها الفارس عن فرسه، وعلى خشبة مسرحه في قرية المفتاحة التشكيلية بمدينة الضباب.
الأرض عطاء بلا مقابل، وكذلك هو الفن. هذا هو إرث الراحل. فيا لها من صورة إبداعية في ربط هذا الفنان الفرد بالأرض، ويا له من فنان، ويا لها من أرض.
• أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل