استوقفتني عبارة للفيلسوف الأمريكي إريك هوفر في كتابه «المؤمن الصادق»، الذي نُشر في عام 1951م، وترجمه للعربية الدكتور غازي القصيبي عام 2010م، يقول فيها: «ينزع الرجل إلى الاهتمام بشؤونه الخاصة عندما تكون جديرة بالاهتمام. أما عندما لا تكون لديه شؤون خاصة حقيقية، فإنه ينزع إلى نسيان شؤونه التي فقدت معناها والاهتمام بشؤون الآخرين الخاصة».
حين يفقد الإنسان الشعور بوفرة النِّعَم من حوله، أو تتضاءل عنده قيمتها أو ربما لا يراها أصلًا، ولا يشعر بوجودها وامتلاكها. وحين لا يجد قضية شخصية تستحق اهتمامه والاستيقاظ لها كل صباح. وحين يعيش بلا هدف أو مشروع حياتي أو حتى هواية، فإنه يشعر بالتيه كل يوم، وبأنه يعيش في الهامش بلا قيمة.
وهنا تنطلق شرارة المقارنات مع الآخرين. وتتعاظم في نفسه الحسرات بحجم الفجوة بين ما لديه وما عند الغير، فتتولد الغيرة والحسد، وعندها لا تَسَلْ ما الذي يمكن أن يفعله الحاسد؟
ألم يقتل قابيلُ أخاه هابيل حسدًا حين تقبَّل الله قربانه؟ أمَا رمى أبناء نبي الله يعقوب أخاهم يوسف في البئر، وكادوا يقتلونه حسدًا؛ لأنه أحبُّ إلى أبيهم منهم؟
بل إن الحسد قد يذهب بلبّ العالِم الجليل، فيجعله يسقط في فخ الغيبة والهمز واللمز؟ وهذا ما حدا بابن عباس «رضي الله عنهما» أن يقول: «استمعوا علم العلماء، ولا تصدّقوا بعضهم على بعض، فو الذي نفسي بيده لهم أشدّ تغايرًا من التيوس في زُرُبها». وقد قيل قديمًا: «كلام الأقران يُطوى، ولا يُروى».!
عجيبٌ هذا الحاسد، تؤرقه نجاحات الآخرين، وتستفزه إنجازاتهم، وترهقه مكتسباتهم ومقتنياتهم. ولأنه يشعر في قرارة نفسه بالضعف والعجز عن تحقيق أي انتصارات شخصية أو نجاحات مثلهم، فإنه يتمنى خسارتهم وسقوطهم وزوال نعمتهم.
«كلُّ العداواتِ قد تُرجى مودتُها..
إلا عداوةَ من عاداكَ عن حسدِ»
وحال الحاسد مثيرة للشفقة، حيث تسكنه التعاسة وتلفّه الحسرات، ولا يعلم بألمه فضلًا عن أن يتعاطف معه أحد. منشغلٌ بالناس عن نفسه، وهم منشغلون عنه بحياتهم ونجاحاتهم، تكبر في عينيه خيراتهم ومكتسباتهم وتصغر في عينيه نِعم الله عليه. وكم في هذا من سوء أدبٍ مع الله موزع الأرزاق والمعطي والمانع والباسط والقابض. ورحم الله منصور الفقيه؛ إذ يقول:
«ألا قُلْ لمَن ظلّ لي حاسدًا
أتدري على مَن أسأتَ الأدبْ؟
أسأتَ على اللهِ في حُكمِهِ
لأنكَ لم تَرضَ لي ما وهبْ»
وقد يقتل الحسدُ صاحبَه، كما قتل وزيرَ الخليفةِ العباسي المعتصم بالله، حين رأى الخليفةَ قد قرّب أعرابيًّا وأدناه منه، بل وجعله نديمًا له لطيب حديثه ومعرفته. فعظم ذلك على الوزير وأراد أن يوقع بينهما العداوة، ولكنه وقع في شر أعماله، وقُتِلَ في قصةٍ حفظتها كتب التاريخ، وحفظت أيضًا قول الأعرابي: «لله درُّ الحسد، ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله».
اللهم اجعلنا ممن انشغل بنفسه عن الناس، وأعذنا من شر حاسدٍ إذا حسد.
@MetebQ